مقالات

النكبة.. ما بين المتاهة والجذور

سؤال عالماشي – موفق مطر

أوقعت المنظومة الاستعمارية نكبة بمقدرات مادية للشعب الفلسطيني، لكن هذه المنظومة لم تقدر على إحداث نكبة في العقل الفردي والجمعي لشعب فلسطين.

استولوا بإرهابهم وإجرامهم على الأرض والبيت وهجروا وشردوا وقتلوا وارتكبوا المجازر لكنهم لم يقدروا على إحداث نكبة ثقافية فينا، وفشلوا في إدخالنا متاهة البحث عن الهوية والجذور والكيانية السياسية كما فعلوا مع شعوب قطعوا تاريخها عن حاضرها وربطوا مستقبلها بمصالحهم، حتى بدت بلا جذور.

عجزت المنظومة الاستعمارية ومعها منظومة الاحتلال الاستيطاني العنصري عن تطبيق بنود برنامجها لتثبيت قواعدها، اذ فلحت في نزع القلب الأصلي (الثقافة) واستبدلته بصناعي، لكنها فشلت في سحب الأمر على الشخصية الفلسطينية، لسبب بسيط أن المناعة الوطنية كانت قوية ومهيأة لصد غزوات وباء الصهيونية الاستعمارية.

لم يفلح المستعمرون في تبديد الوعي والهوية الوطنية، واحلال الخوف والرعب والرضى بالذل والعبودية على حساب الكرامة والحرية رغم تعدد اساليب الجريمة ضد الانسانية وتنوع الاسلحة المستخدمة في المجازر، وحملات التشريد والتهجير فالفلسطيني كان يخرج بعد كل جولة اقوى، فيما استطاع مستثمرو المشكلة اليهودية في اوروبا إدخال معظم يهود اوروبا واليهود العرب الى أتون مشروع بريطانيا العظمى (الاستعماري) ودفعوهم الى دخول نكبة بلا حدود، عندما خدعوهم بوعد فأخرجوهم من مواطنهم الأصلية تمهيدا لإحداث النكبة بشعب فلسطيني، وأدخلوهم متاهة ظنوها طوق نجاة مما حدث لهم في بلادهم الأصلية، فيما (المستثمرون الكبار) منهم في هذا المشروع الاستعماري في المنطقة العربية والعالم ايضا كانوا يعلمون تفاصيل خارطة ألغامها وما زالوا يملكون خارطتها حتى وان انتقلت من قارة الى أخرى واستقرت الآن في ادراج ادارة دونالد ترامب.

حافظ الفلسطيني المظلوم على هويته المتبلورة اصلا، أما الذين أرادوا له النكبة فقد نزعوا روح الانسانية وأبقت معظم جمهور مشروعهم الاستيطاني الاحتلالي مجردا منها، وبذلك دخلوا متاهة بلا نهاية بتحولهم من مظلومين في اوروبا الى ظالمين لشعب فلسطين الذي تحول بفعل النكبة الى مركز تحرر في العالم، والى كاشف بدقة لأخطر مشروع استعماري احتلالي استيطاني عنصري على السلم والاستقرار في أهم منطقة حضارية في العالم، وهنا تكمن الفروقات.

لقد حاولوا دفعنا للدخول الى المتاهة، ليفرحوا بفقدان هويتنا وثقافتنا وروحنا الانسانية، لكننا صمدنا، صبرنا، قاومنا، خسرنا، ارتقى منا ضحايا شهداء اطفال ونساء ورجال وشباب وشيوخ.. حتى البيت الذي غادره اجدادنا تحت نزعة الخوف، بقي مفتاحه اغنى واغلى الموروثات، وبقيت جدرانه وقبابه وشبابيكه شاهدا تاريخيا، ولو فحص (التائهون) (العابرون) ما بين شقوقها لوجدوا آدم الفلسطيني الأول نفسه هناك.

بقيت جذورنا هنا، حتى عندما اضطررنا للرحيل الى هناك، لم نقلعها ونرحل بها، فجذور الوطن تنمو في قلوب اصحابه وهذه الحقيقة هي التي غابت عن أذهان الغزاة والمستعمرين، لقد أدركوها حتى بعدما اخذتنا الرياح العاتية بعيدا، ليكتشفوا بعد حين ومن اطلالة اللاجئ الفلسطيني او ابنه  ومن بعده حفيده بهيئة الحق، بقامة وهامة الفدائي الفلسطيني العائد الى وطنه، فالرحيل لم يسلخنا عن الوطن، ولا خلع منا قلوب عقولنا التي في صدورنا، فالجغرافيا صورة دنيا لوطن اعظم اسمه ثقافة، فيها التاريخ والتراث واللغة فيها الحاضر والحرية والاستقلال، فيها التحرر والعدالة والمساواة فيها الانسانية بأجمل تجلياتها.

غفل المستعمرون السابقون كما يغفل اللاحقون الآن عن ان جذور انسان فلسطين لا تموت، وأن التيه الحقيقي هو الغدر بالقيم الانسانية.. والتحول عن سابق تصميم وترصد الى عالم الشر والباطل حيث سفك الدماء والاستبداد والاحتلال والعنصرية سيعرفون ويدركون ان بيت الخير وشجرة الانسان المقدسة قد حافظ عليها الشعب الفلسطيني طيبة من اجل زمانه اللانهائي على ارض وطنه، ومن أجل زمان افضل للانسانية الذي تحاول المنظومة الاستعمارية العالمية وشريكتها الصهيونية اجتثاثها من ثقافة الأحرار في العالم لبناء عرش وتاج جديد لامبراطورية لا يكون فيها الناس إلا مجرد عبيد، لكن هذا لن يكون ما دام الشعب الفلسطيني قد حول نكبته الى ثورة وتحرر وعطاء نضال بلاد حدود من اجل الحرية، فبالوطنية تجاوزنا النكبة وأسسنا لثقافة التحرر والاستقلال بالفكرة والقرار.