مقالات

رقمنة العالم

حسن جوان

تميل بعض التكهنات الى فرض أنّ واقع التباعد الاجتماعي ما هو سوى فرصة مواتية دفعت بالخطة العالمية لرقمنة الحياة خطوات عملية شاسعة. قطاعات عريضة رضخت للأمر الواقع وحوّلت نشاطاتها المباشرة الى رقمية بحكم مؤقت كما تتصوّر مثل التعليم والصحافة والبنوك على سبيل المثال، لكنّ هذه التجربة المؤقتة قد يجري اعتمادها كوسيلة مواكبة لتطورات حتمية يفرضها الطابع المتنامي لعصرنة جميع الوسائل والمؤسسات التقليدية.
الماكنة الاقتصادية المعاصرة تعتقد أن لا حاجة ملحّة مستقبلاً لوجود هذا الكمّ الهائل من الترهّل في الوظائف أو الاعداد الفائضة من الأبنية والإنشاءات العمرانية المشغولة بحشود بشرية لا مبرر لها.
عندما بدأت عملية الرقمنة بمظاهرها الأولية كانت فتحاً مثيراً وفاعلاً في ثورة التكنولوجيا الحديثة وفرضت مع الوقت انفتاحاً وتسهيلات هائلة في وسائل الاتصال والبحوث في مختلف العلوم وانسحب ذلك بطبيعة الحال على بنى الوعي الاجتماعي والعملي وعلى طبيعة العلاقات.
لكن هذا الانفتاح يستبطن خلايا ذات قدرة متنامية تتسابق مع وعي الانسان وقدرته على التكيف وفق استحداثاته شبه اليومية لدرجة انه بسط سلطته التطوريّة الى مديات من حياة الافراد والمجتمعات قد لا تروق لهم. كل تقدم أو ثبات يستلزم منظومات غير انتقائية في سيل انعكاساتها على الافراد والمجتمعات وكذلك على شكل العمل الذي بدوره سوف يؤسس لعلاقات خاصة تنتج عن طبيعته.
وكما جرّبنا شكلاً أو شكلين من شبكات التواصل الاجتماعي والتعاطي الإعلامي الجديد مع الخبر وما احدث ذلك من تبدل في منظومة العلاقات الاجتماعية والإعلامية والثقافية ايضاً، يمكن تخيّل أو قياس ذلك على تطبيقات اكثر مستقبلاً سوف تحدث تأثيرات أوسع على الطبيعة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. مظاهر جمّة سوف تجنح نحو التكثف والابتسار، كما سوف يحدث نوع من الامعان في الفردية لصالح نتائج الثروة والانتاج الجديد والسيطرة المفرطة على الافراد وصناعة الجماعات عبر وعي قابل للتشكل على ايدي خبراء اتقنوا مسبقاً هذه التجارب عملياً في ما يعرف بصناعة الأجيال.
ستكون سوقاً واسعة بمعناها الاشمل في تحريك وتصنيف الجماعات وموضات الثياب والثقافة كما بذات الزخم يمكن تحريك الثورات وصناعتها بطرق لا تقلّ يسراً في أيامنا هذه عن صناعة الرأي العام وتوجيهه عبر منصات واشخاص ومحطات قادرة على احداث تغييرات عميقة وفادحة بحكم قوة الصورة وتوظيف السياق بنسق لا يفطن اليه الوعي البسيط الا بعد فوات الأوان.
واذا كانت بواكير الحرب والقرصنة السيبرانية قد بدأت فعلاً بعض تجاربها بنجاح، فإن اللاعبين الكبار يدركون تماماً معنى ان يخترق منافس شرس او عدو متربص منظومة خصمه الدفاعية او الجرثومية او الصناعية او حتى شفراته النووية. انماط مختلفة من تطوير الادراكات سوف نحتاج اليها لتقبل تحوّلات المرحلة المقبلة من الحضارة الإنسانية وقوانينها الجديدة، ومزيد من الرفاهية والفردانية والاستلاب.