مقالات

لا حياء في السياسة

 
 
د.احمد مصطفى
 
في أول ظهور عالمي له بمشاركته في المنتدى الاقتصادي العالمي/دافوس كان الرئيس البرازيلي الجديد جاير بولسونارو محط اهتمام في ظل غياب قادة بارزين من دول العالم كما اعتاد المنتدى أن يشهد في سنوات سابقة. لكن ظهور بولسونارو تزامن مع فضيحة في بلاده كشفتها الصحافة البرازيلية عن فساد ابنه فلافيو، عضو البرلمان، وعلاقته بجماعات الجريمة والفساد المالي. لكن ذلك لم يؤثر في الرئيس البرازيلي الذي يدعي أنه يقود تيارا جديدا “سيغير وجه أميركا اللاتينية” ويحرفها يمينا ـ بالضبط على طريق الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وبدا بولسونارو أكثر عنجهية من أسلافه، إذ إن الرئيس الانتقالي الذي سبقه ميشيل تامر (لبناني الأصل) كان على وشك أن يدان في قضايا فساد قبل أن يدبر انقلاب قصر على الرئيسة دلما روسيف بتهمة أنها زورت أرقام الاقتصاد الكلي للبرازيل. وعزلت روسيف، وتولى تامر الرئاسة لتفادي السجن. أما بولسونارو فيعد بمكافحة الفساد وتحسين أحوال البرازيليين المعيشية، بينما تحيط به شبهات الفساد من كل جانب.
صحيح أن الساسة غالبا يكذبون، أو على الأقل يروون نصف الحقيقة، ويعتبرون ذلك مناورة مقبولة في عالم السياسة. لكن ما نشهده منذ نهاية القرن الماضي يتجاوز بشدة ما قد يكون الناس “تفهموه” دون موافقة من الكذب والمناورة. فليست البرازيل متفردة في البجاحة والعنجهية وانعدام الحياء في السياسة. إنما ذكرناها لأنها نموذج واضح وآني تماما لما تشهده أغلب دول العالم منذ أكثر من عقدين، خصوصا الدول التي تعظ بقية العالم ليل نهار بالديموقراطية والقيم الأخلاقية والحقوقية!! ويمكن للمرء سرد قائمة طويلة من الحالات التي تدل على أن السياسيين في بعض الأحيان أصبحوا من الفجاجة بحيث لم تعد كلمة “الحياء” تعني شيئا. فقبل عقود قليلة كانت مجرد شيهات حول فساد سياسي أو استغلاله للنفوذ تجعله يترك منصبه وينسحب من الحياة العامة حتى قبل أي إدانة قضائية. بل إنه في بعض الثقافات ـ كما كان في اليابان مثلا ـ كان ينهي حياته خجلا وشعورا بالعار.
لم يعد الكذب من قبل السياسيين مجرد مناورة وإنما تبجح وعنجهية ومبالغة في أن تأخذهم العزة بالإثم حتى يكاد ينطبق عليهم المثل الشعبي البذيء: “جادل العايبة تلهيك، واللي فيها تجيبه فيك”. دليل ذلك تفاخر البعض بتعيين مجرمين مدانين في مناصب رسمية على سبيل المثال. فقبل أيام تم تعيين إليوت ابرامز مبعوثا أميركيا خاصا لفنزويلا من قبل وزير الخارجية. ولمن لا يذكر، فقد كان إليوت أبرامز ـ مع أوليفر نورث ـ مدانا أساسيا في فضيحة إيران كونترا. بل إن إليوت مدان كمجرم حرب في محاولته التغطية على مجزرة راح ضحيتها ألف مدني في السلفادور على يد ميليشيا مدربة وممولة أميركيا. طبعا لسنا بحاجة بالتذكير أن المدانين في قضايا، أي قضايا، لا يتولون مناصب رسمية ولو صغيرة فما بالك بمجرم حرب (حسب القانون الأميركي وليس مجرد اتهام).
المثير للاهتمام أن ذلك التوجه يسود أكثر فيما يسمى “العالم الأول” وضمن أعتى الديموقراطيات الغربية وأكثر الدول ادعاء للتسيد الأخلاقي والقيمي. ولم يعد الأمر يقتصر على موظف هنا أو هناك يرتشي أو يستغل منصبه أو يسرق مال الدولة، وإنما أصبح سمة في المناصب العليا. فرئيس فرنسا السابق (نيكولا ساركوزي) مثلا لا يجد غضاضة في تمويل حملته الانتخابية بأموال ليبية، وحين ينكشف أمره ويحاول التغطية على الفضيحة يستغل أجهزة الأمن الفرنسية لأغراض شخصية لتنفذ له عمليات “قذرة” من بينها تصفية شخصية ليبية كانت على دراية بالتمويل. وساركوزي مجرد مثال، وهناك كثيرون يتباهون بعلاقاتهم بالجريمة وحتى فسادهم المالي (طالما أنهم أفلتوا من أن يدانوا). وكثير من هؤلاء رؤساء، من الفلبين إلى إسرائيل.
ربما يتصور البعض أن الرادع الأخلاقي والقيمي اضمحل بسبب تراجع تأثير الدين في الحياة العامة، لكن ربما كان العكس هو الصحيح. فعلى سبيل المثال من عين مجرم حرب في منصب دبلوماسي هو وزير خارجية إيفانجليكال (مايك بومبيو) يؤكد على التدين والتزامه به. وفي خطابه الأخير في الجامعة الأميركية بالقاهرة، الذي اعتبر بمثابة خريطة طريق للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بدأ بالإشارة إلى أن إيفانجليكال يحتفظ بكتابه المقدس أمامه في مكتبه مستهديا به. كذلك نائب الرئيس مايك بنس، الذي يشاع عنه أنه يستفتي زوجته الأشد تدينا (كلهم إيفانجليكال) قبل الإقدام على أي أمر.
أتصور أن البشرية تدخل مرحلة من “التطرف” في كل شيء، ومن بين ذلك التطرف في البجاحة والعنجهية والتفاخر بالخطأ. وهناك حالة من “الشطارة” (بمعناها الأصلي: أي السرقة وقطع الطرق والبراعة في ارتكاب الجريمة) في أغلب مناحي حياة البشر، لا يفلت منها إلا من هو أقل انكشافا على تطورات العالم في مجالات كثيرة. وساهمت تطورات التكنولوجيا في جعل ذلك شبه مقبول، أو على الأقل قابل للتعايش معه.