إذلال العرب: كلما «اعتدلنا» ازدادوا تطرّفاًسوف يسجل التاريخ

1

خالد الحروب
أن وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية مثّل أهم انتكاسة في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين نحو الغرائزية السياسية والرعونة وما يرافقهما من دمار. ووفق العديد من التحليلات الغربية والأميركية الرصينة يمثل ترامب، بعد نزع الرتوش التجميلية التي سرعان ما تسقط عند أول اختبار، التجسيد الأهم للأيديولوجية الأميركية البيضاء العنصرية القائمة على خليط تشويهي للمسيحية الإنجليكانية مع الافتخار العنصري بالذات الأميركية التي تمثل إرادة الله على الأرض، مُضافاً إليه هوج وتطرّف سياسي من طراز فريد. لا تهتم هذه الأيديولوجية، كسائر الأيديولوجيات الدينية والسياسية المُتعصبة، بالنتائج التي تترتب على قراراتها وسياساتها الهوجاء، لأنها تعتقد أن «يداً إلهية» تصحبها وتبارك خطواتها، أو أن «حكمة» خفية بارعة يمتلكها قادتها. في أحوال وظروف كهذه يتم استرذال السياسة والواقع والمحددات والمساومات التي تفرضها هذه كلها على الأطراف المختلفة وتدفعها إلى التعقل.
عندما تتحالف رؤى دينية مسيحانية مُتعصبة مع عجرفة القوة والدولة يقود ذلك في ما يقود إلى مسألتين: يتم التطويح بالسياسة والتسيس ودفعهما في مهاوي التطرف وردود الفعل القصوى، ويتم تسعير إذلال الطرف الآخر وتغذية كل أنواع العنف فيه. وعلى رغم فداحة هذا الدرس الرهيب والدامي في تواريخ البشر والبلدان وعلى رأسها التاريخ الغربي نفسه، إلا أن صفاقة القادة المتطرفين، وفي حالات كثيرة غباءهم وعدم اطلاعهم، معطوفاً على تسرعهم وانبهارهم بذواتهم، تدفعهم إلى تجاوز الدرس والوقوع في محظوراته من جديد. دونالد ترامب ليس الأول ولن يكون الأخير من هؤلاء القادة المهووسين بعظمتهم، والذين يظنون أن التاريخ والجغرافيا يُمكن أن يُغيّرا بالحبر والقرارات والأوراق، وإن الشعوب وإرادتها يمكن أن تُداس بالتصريحات أو حتى بالمعاهدات المُذلة. الدرس الغربي الحديث لا يزال طازجاً: الإذلال المُضاعف من قبل الطرف المُنتصر للطرف المهزوم لن يؤدي إلا إلى اختزان الغضب والثورة والحنق عند الطرف المهزوم، ثم قيامةُ انتفاضته التي لا يمكن لأحد أن يتنبأ بمساراتها. ألمانيا النازية وحنقها وغضبها وتطرفها وعنصريتها هي نتاج الإذلال الذي تعرّض له الألمان في معاهدات فرساي بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى والشروط التي بالغت في إهانة وتركيع ألمانيا ووضعها لعقود طويلة تحت حذاء الطرف المُنتصر. فاز هتلر في انتخابات ديموقراطية على رغم شعاراته المتطرفة والعنصرية، لأنه استغل مشاعر الحنق والثورة المختزنين عند الألمان على الإذلال المفروض عليهم.
علاقتنا نحن العرب مع الغرب الحديث قائمة على استدامة الإذلال منذ الغزو النابليوني لمصر في أواخر القرن الثامن عشر. حتى خلال الحكم العثماني في قرنه الأخير أو أكثر بدأ مسلسل الإذلال من خلال نظام الوصاية على مسيحيي الشرق والامتيازات والحصانات التي صارت تتمتع فيها القنصليات الأجنبية سواء في تعاملها مع هؤلاء المسيحيين وفصمهم عن مجتمعاتهم أم غير ذلك من تعاملات. مع انهيار العثمانيين وتوالي دخول جيوش الاستعمار البريطاني والفرنسي الحواضر العربية الكبرى، لم يتردد «الفاتحون» الجدد من ترصيع الصفحة الأولى من احتلالاتهم بجملة إذلالية هنا أو هناك: إدموند اللنبي، قائد الجيش البريطاني الذي دخل القدس سنة 1917 قال: «الآن انتهت الحروب الصليببية»، والفريق هنري غورو القائد الفرنسي الذي دخل دمشق سنة 1920 ركل قبر صلاح الدين بقدمه، قائلاً: «ها قد عدنا يا صلاح الدين».
منذ بداية اللحظة الاستعمارية تلك، ومسلسل الإذلال لم يتوقف إلى اليوم وحتى لحظة اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل. وإسرائيل نفسها كانت صنيعة غربية استعمارية في قلب المنطقة لتعزيز وضمان دور ونفوذ بريطانيا في المنطقة وقريباً من قناة السويس وتنافساً مع فرنسا، فضلاً عن التخلص من المسألة اليهودية التي كانت ضاغطة في أوروبا. تأسيس إسرائيل ورعايتها ومدّها بكل شرايين الحياة على رغم دعم العرب بريطانيا وميولهم نحو اكتساب حضارة وتمدن الغرب، هرباً من قرون التكلس العثماني، أحبط كل التوجهات الحداثية والليبرالية العربية ودفعها نحو التطرف دفعاً. وخلال العقود الثمانية الماضية لم تمر على المنطقة العربية فكرة من الأفكار التغييرية أو نزعة أيديولوجية حملت أملاً هنا أو هناك إلا ودُفعت دفعاً نحو التطرف والراديكالية بسبب إيغال الغرب في إذلال العرب من دون توقف. فقد تطرفت القومية العربية وتطرفت الماركسية وتطرفت الليبرالية وتطرفت الإسلاموية وتطرفت الطائفية والعوائلية، وكل أصناف التطرف ذاك تعود جذوره في شكل أو آخر إلى فجاجة السياسة الغربية التي سهرت على إهانة العرب وتقوية إسرائيل ضدهم، والسيطرة على ثرواتهم، وتعزيز استبداد أنظمتهم حتى يسهل قيادهم. خلال تلك العقود الطويلة، أمدّ العرب الغرب بالطاقة التي قامت عليها حضارة الغرب وصناعته، وخلالها أيضاً أمدّ الغرب إسرائيل بالقوة والدعم اللذين قام عليهما إذلال الفلسطينين والعرب.
والشيء المُدهش في مسيرة علاقة العرب بالغرب في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وخاصة مع أميركا، أن كل محطة من محطات «الاعتدال» العربي الرسمي كانت تُقابل بزيادة الإذلال والتطرف من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن ورائهما الغرب كله. ولأن دافع الحديث هنا هو قرار ترامب الأخير حول القدس، يكفي التأمل في منحنى «الاعتدال الفلسطيني» مقابل منحنى «التطرف الأميركي- الإسرائيلي» المُدهش. كلما قدّم الفلسطينيون تنازلاً ازداد الأميركيون والإسرائيليون تطرفاً. منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، وعندما قبل الفلسطينيون ضمناً من خلال «إعلان الدولة الفلسطينية» في المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر فكرة حل الدولتين، يتصاعد منحى التشدّد الأميركي والإسرائيلي، مُنجزاً أمراً رئيساً مُهمّاً وهو تعزيز الإذلال المُفضي إلى تراكم الغضب والنقمة وتخليق البيئة لكل خطابات التطرف والراديكالية. بعد ذلك بسنوات قليلة، انحدر الفلسطينيون أكثر وقبلوا باتفاق أوسلو عام 1993، والذي كان مليئاً بالألغام والتأويلات والتأجيلات للقضايا الأساسية، ومنها القدس. تعهد الأميركيون آنذاك بعدم الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل، وبأن القدس الشرقية على الأقل أرض محتلة (مع أن القدس الغربية ذاتها أرض محتلة أيضاً حتى بمعايير قرار التقسيم عام 1947 الذي اعتبر القدس منطقة دولية لا تخضع لسيادة أي طرف من الأطراف). وضعت جزرة «السلطة» في مقدمة عربة تسير سريعاً، بينما أُجلست في المقعد الخلفي الرسمية الفلسطينية ومن ورائها الرسمية العربية، وبقي الجميع يلهث وراء تلك الجزرة من دون الإمساك بها. وخلال ما يقارب نصف قرن أوسلوي حافل بالسنوات العجاف، ظلت العربة تدور في حلقات مفرغة، ولم تتمكن لا السلطة الفلسطينية ولا الحكومات العربية من الإمساك بتلك الجزرة اللعينة، والتي تعفّنت أساساً خلال تلك السنوات. لكن العملية الموازية للدوران في الحلقات المفرغة كان أكثر إذلالاً: تضاعف التهام إسرائيل الاستيطاني للأراضي الفلسطينية المُخصصة، نظرياً لـ «جزرة الدولة الفلسطينية» العتيدة، وزاد تهويد إسرائيل القدس وضمّها لها وإخراجها من «الجزرة»، إلى أن وصلت الأمور إلى اعتراف ترامب بها عاصمة لإسرائيل، واشتراط إسرائيل من الآن فصاعداً أن أي اتفاقية «سلام» يجب أن تتضمن الإقرار بما أقره ترامب وبيهودية الدولة، وزاد تهميش قضية اللاجئين وشطب ملف العودة من أي حديث عن «الجزرة»، وذوت كل الأفكار لتحوم حول حكم ذاتي و «سلام اقتصادي» يُشرف عليه زوج ابنة ترامب المراهق سياسياً والجاهل بتاريخ وجغرافيا المنطقة. تتوازى مع ذلك كله تنازلات فلسطينية وعربية متواصلة كي ترضى الولايات المتحدة وإسرائيل، ولإثبات حسن النية العربي الجماعي، وقُدمت إلى إسرائيل خطة سلام عربية اعتبرها الرئيس الأميركي السابقب اراك أوباما حُلماً وعرضاً تكون إسرائيل غبية إن لم تلتقطه. كل ذلك الاعتدال الفلسطيني والعربي قوبل ولا يزال يُقابل، بزيادة التطرف الأميركي والإسرائيلي، والذي يُقابل تحت الأرض بتعميق الإذلال والمهانة اللتان لا يعرف أحد كيف يموران تحت السطح ومتى ينفجران وبأي اتجاه.

التعليقات معطلة.