اخبار سياسية

“إنّها لعنتها”… هل تنجح نافالنايا حيث أخفق نافالني؟

أليكسي نافالني وزوجته يوليا (أ ب)

“أتذكّر كيف أذهلَتْني في اللقاءات الأولى: شقراء، جميلة وحتى تعرف أسماء جميع الوزراء”.

لم يُعرف عن يوليا نافالنايا، أرملة المحامي والمعارض الروسيّ المتوفى حديثاً أليكسي نافالني، بأنّها كانت طامحة لتزعّم حركة سياسيّة معارضة. انصبّ جلّ همّها على رعاية العائلة بينما تركت العمل السياسيّ لزوجها الذي كان يكبرها بيوم واحد. غير أنّ إشارته السابقة إلى اطّلاعها على أسماء الوزراء الروس كافّة أظهر أنّها تمتّعت بنزعة للاهتمام بالسياسة. 

بعد موته، تجلّت هذه النزعة أكثر. “لا يحقّ لي أن أستسلم”، قالت في فيديو تعليقاً على وفاة زوجها. “أسألكم أن تشاركوني الغضب”. كان نافالني يقول ممازحاً إنّ زوجته “أكثر راديكاليّة” منه. بحسب تعابير الغضب لديها، يبدو أنّ مزاح زوجها حمل في طيّاته الكثير من الجدّيّة. اتّهمت نافالنايا الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين بقتل زوجها. واضحٌ أنّها تريد إكمال إرثه في المعارضة وفي الوصول إلى “روسيا حرّة” كما قالت. لكن إن كان نافالني قد فشل في إحداث تغيير سياسيّ كبير في موسكو، فهل لزوجته الخارجة حديثاً من ظلّه حظوظ أكبر؟

للإجابة بُعدان بالحدّ الأدنى. الأوّل يرتبط بـ”الفشل” الظاهريّ لمسيرة نافالني. عدم إمكانيّة تحقيق اختراق في إحدى السلطتين التشريعيّة أو التنفيذيّة قد لا يعني إخفاقاً في دولة يسيطر حزب الرئيس “روسيا الموحّدة” على مقاليد الحكم فيها. إذا كان بوتين أو آخرون في حلقته الضيّقة قد أصدروا قراراً بتصفيته فهذا يعني أنّ الرجل أخاف من يعنيهم الأمر أو مثّل تهديداً أوّلياً على الأقلّ.

قوّة نافالني… النسبيّة

يبيّن أندريه سوالدتوف وإيرينا بوروغان من “مركز تحليل السياسات الأوروبّية” كيف تمتّع نافالني بمهارة عالية في فهم قوّة الصورة والكلمة وفي إدارة وسائل التواصل الاجتماعيّ. لقد تمكّن بفعل الكاريزما وتلك المهارات من جذب فئات مختلفة من المجتمع الروسيّ، بدءاً بالليبراليّين وصولاً إلى الموظّفين الرسميّين والأساتذة ومهندسي الاتّصالات وليس انتهاءً بالمراهقين والشباب. سنة 2017 على سبيل المثال، نشر وثائقياً على “يوتيوب” يظهر “فساد” الرئيس السابق دميتري مدفيديف فجذب نحو 45 مليون مشاهدة حتى 2023. برقم آخر، هناك أكثر من ربع الشعب الروسيّ قد شاهد الفيديو. ويقول البعض إنّه تمكّن حتى من الحصول على بعض التعاطف من الأجهزة الأمنيّة، إذ كان يصف عناصرها بـ”الوطنيين الذين يحصلون على أجر منخفض”.

وشعبيّة نافالني ليست جديدة أو وليدة انتشار وسائل التواصل الاجتماعيّ وحسب. سنة 2013، خاض نافالني سباقاً انتخابياً عن مقعد عمدة موسكو. خسر نافالني السباق أمام مرشّح الحزب الحاكم سيرغي سوبيانين، لكنّه كسب أكثر من 27 في المئة من أصوات الناخبين.

(امرأة تلقي تحيّة على روح نافالني – أ ب)

وابتكر نافالني أيضاً مفهوم “التصويت الذكيّ” وهو توجيه غالبيّة الأصوات المعارضة إلى مرشّح واحد هو عادة الأوفر حظاً في مواجهة مرشّحي الحزب الحاكم، من أجل حرمان الأخير من أكبر عدد ممكن من الأصوات في الانتخابات الفدراليّة والإقليميّة. وأصدر نافالني والمقرّبون منه تطبيق “التصويت الذكيّ” لمساعدة الناخبين الروس على اختيار مرشّحهم الأوفر حظاً لكنّ السلطات الروسيّة عمدت إلى حظره قبل الانتخابات مطالبة “غوغل” و”أبل” بسحبه من متاجرهما الإلكترونيّة تحت طائلة اعتبار الأمر تدخّلاً في الشؤون الداخليّة للدولة الروسيّة.

حتى خلال السجن، حافظ نافالني على معنويّات عالية وروح الدعابة، كما تبيّن في آخر فيديو له وهو يتحدّث إلى حرّاسه في معسكر “الذئب القطبيّ”. قوّة نافالني أيضاً، وربّما هي القوّة التي قتلته في نهاية المطاف، أنّه لم يخشَ ما كان ينتظره في روسيا لدى عودته من ألمانيا حيث تلقّى العلاج من التسمّم (أو التسميم) الذي أصيب به في آب 2020. عاد نافالني بمحض إرادته إلى روسيا كي يقول للروس المعارضين إنّه ما من داعٍ للخوف. هل وصلت رسالته إلى المجتمع الروسيّ؟

كانت هناك محاولات تظاهر وتجمّع في بعض المدن الروسيّة لتوجيه تحيّة إلى روح نافالني، لكن سرعان ما فرّقتها القوى الأمنيّة. يبدو أنّ الخوف لا يزال سائداً في روسيا أو أنّ قضيّة نافالني غير مقنعة بالنسبة إلى السواد الأعظم منه. في كلتا الحالتين، يبدو أنّ نافالنايا ماضية في حمل رسالة زوجها.

“إنّها لعنتها”

يعتقد الدبلوماسيّ الروسيّ السابق الذي استقال سنة 2022 من منصبه اعتراضاً على الحرب بوريس بونداريف أنّ على نافالنايا أن تمثّل مروحة أوسع من شرائح المجتمع الروسيّ المعارض وإعطاء الجميع صوتاً متساوياً.

لكنّ مهمّة نافالنايا صعبة جداً بحسب مراقبين آخرين. ترى الباحثة البارزة في مركز روسيا-أوراسيا التابع لمؤسسة “كارنيغي” تاتيانا ستانوفايا أنّ الجمهور الروسيّ الأوسع سيشكّك بها، ليس لأنها تعتنق القيم الليبراليّة وحسب بل لأنّها تمثّل بالنسبة إليه أداة غربيّة لإطاحة بوتين. “في روسيا، إنّها لعنتها”. مع ذلك، تشير أيضاً إلى أنّ لنافالنايا مزيّة وجودها خارج روسيا. “بالنسبة إلى النظام الروسيّ، بالطبع، إنّها أنباء سلبيّة”.  

في جميع الأحوال، ترث نافالنايا إرثاً ثقيلاً. سيكون عليها الخروج فجأة من الاهتمامات العائليّة إلى السياسة وانشغالاتها لتحافظ على مسيرته حيّة في الذاكرة الروسيّة والدوليّة المعاصرة. وهي بدأت ذلك بالفعل في مؤتمر ميونيخ للأمن. وإذا كانت في صلب حملات زوجها السياسيّة كما يشير إلى ذلك مراقبون، فقد لا يكون الوضع صعباً كثيراً. لكنّ التركة السياسيّة للقادة البارزين عادة ما تكون مرهقة بالنسبة إلى ورثتهم. تُعقد عليهم آمال أكبر من طاقاتهم قبل أن تتحطّم سريعاً على أرض الواقع لأسباب متنوّعة، منها التصوّرات الأوّليّة غير الموضوعيّة.

تقول ستانوفايا إنّ نافالني، بمعنى من المعاني، “تقمّص” نافالنايا. على الصعيد العاطفيّ، قد تدغدغ هذه العبارة مشاعر الزعيمة الجديدة للمعارضة الروسيّة. على الصعيد السياسيّ، هي لا تشي بطريق مفروش بالورود. لكنّها اعتادت على ذلك. يقال إنّه قبل نحو شهرين من إصابة نافالني بالتسمّم الكبير الذي استدعى نقله إلى ألمانيا، أصيبت هي بأعراض مشابهة في عمليّة كانت تهدف إلى التخلّص من زوجها. يبدو الألم أحد أهمّ القواسم المشتركة بينهما.