الجزء العشرون:
التهدئة المؤقتة… أم التفكيك الهادئ للمعادلة؟
يبدو أن الشرق الأوسط يدخل مرحلة جديدة من التحوّل الهادئ، مرحلة لا تشبه ما سبقها من صدامات ولا حروب مباشرة، لكنها أخطر منها في المضمون. فخلف الهدوء الذي يخيّم على العراق والمنطقة، تتحرّك عملية معقدة لإعادة صياغة “المعادلة” التي حكمت الإقليم منذ عام 1979.
تلك المعادلة، التي قامت على توازنٍ ثلاثي بين إيران وأمريكا وإسرائيل، كانت تهدف إلى ضبط الحراك العربي وإدارة الصراع لا حسمه. اليوم، ومع تغيّر موازين القوى الدولية والإقليمية، تسعى واشنطن ولندن وتل أبيب إلى إنهاء هذه الصيغة، وبناء معادلة جديدة عنوانها: أمريكا – بريطانيا – إسرائيل، أي شرق أوسط بلا إيران، أو على الأقل شرق أوسط يُقصى منه النفوذ الإيراني تدريجيًا .
من “معادلة 79” إلى لحظة التحوّل
منذ أن فتحت واشنطن الباب أمام الثورة الإيرانية في عام 1979، كانت ترى في طهران شريكًا إقليميًا قادرًا على موازنة العرب واحتواء الفوضى. غير أن التحوّل الذي طرأ بعد 2003 ، مع انهيار الدولة العراقية وصعود الفصائل الولائية ، جعل تلك المعادلة عبئًا بدل أن تكون ضمانة.
فإيران التي أُريد لها أن تكون لاعبًا منضبطًا، تحولت إلى قوة منفلتة تتجاوز حدود الدور المرسوم لها، وتتمدّد في أربع عواصم عربية. عندها بدأ التفكير الأمريكي بإعادة النظر في كامل الصيغة، وتهيئة بدائل أكثر استقرارًا وأقل تكلفة.
معادلة جديدة: أمريكا – بريطانيا – إسرائيل
لم تعد الولايات المتحدة قادرة أو راغبة في إدارة الشرق الأوسط وحدها، كما لم تعد إسرائيل تثق بقدرة إيران على حفظ التوازن الذي كان يضمن لها تفوقًا غير مهدَّد. وهنا برزت بريطانيا مجددًا، بخبرتها التاريخية في تفكيك الأزمات وإعادة تركيبها.
فالعراق عاد إلى مركز الاهتمام البريطاني بوصفه نقطة الانطلاق لإعادة توزيع النفوذ. ومن خلال تنسيق متدرج بين واشنطن ولندن وتل أبيب، يجري بناء معادلة جديدة قوامها:
تحييد إيران دون حرب.
إعادة هندسة البنى الأمنية في العراق والخليج.
ربط الاستقرار الإقليمي بالمصالح الغربية المشتركة لا بالمحاور العقائدية.
وهكذا، فإن مشروع “التهذيب وليس الاستئصال” الذي بدأه سافايا في العراق لم يكن سوى الوجه العملي لمرحلة التفكيك الهادئ للنفوذ الإيراني .
العراق مركز التحول
العراق اليوم ليس ساحة صراع، بل مركز اختبار للمعادلة الجديدة. فواشنطن تدير الهدوء عبر “تهذيب الفصائل”، ولندن تضبط الإيقاع السياسي بحذر، بينما تراقب تل أبيب المشهد من زاوية أمنية بحتة.
تُدار العملية بثلاث أدوات رئيسية:
الدمج السياسي والأمني للفصائل لتفقد قدرتها على العمل كأذرع إيرانية.
إعادة إنتاج نخب مدنية جديدة تحمل خطاب الدولة لا الثورة.
تجفيف مصادر النفوذ الإيراني المالي والاجتماعي عبر ضبط المؤسسات الدينية والاقتصادية.
بهذا المعنى، لا يُراد للعراق أن يخرج من المعادلة، بل أن يصبح المكان الذي تُصاغ فيه المعادلة الجديدة.
الصراع على المعادلة
إيران تدرك تمامًا أن ما يجري ليس مجرد “تهدئة”، بل عملية إعادة تموضع واسعة تُقصيها من مراكز التأثير. لذلك تحاول المناورة في ملفات أخرى: في لبنان، عبر دعم حزب الله؛ في اليمن، عبر الورقة الحوثية؛ وفي سوريا، عبر تعزيز وجودها العسكري.
لكن كل تلك المحاولات تبدو دفاعًا عن موقع يتآكل بهدوء، إذ أن واشنطن ولندن تمارسان سياسة التفكيك الصامت بدل المواجهة الصاخبة. أما إسرائيل، فهي تتحيّن اللحظة التي تضمن فيها انتهاء الدور الإيراني دون الحاجة إلى حرب كبرى.
ما بين التهدئة والتفكيك
الهدوء الذي يبدو وكأنه إنجاز سياسي هو في الحقيقة مرحلة انتقالية نحو شرق أوسط جديد، تُستبدل فيه الفوضى بضبطٍ محسوب، وتُدار فيه الولاءات عبر المصالح لا الأيديولوجيات.
لكن السؤال الذي يظل مطروحًا هو:
هل هذا التحول مقدّمة لبناء توازنٍ مستقر يعيد للعراق دوره الطبيعي؟ أم أنه مجرد إعادة إنتاج للهيمنة الغربية بصيغة أكثر نعومة وتعددًا؟
إن ما يحدث اليوم ليس “تهدئة” بالمعنى التقليدي، بل تفكيك هادئ لمعادلةٍ عمرها نصف قرن، وولادة معادلة جديدة تتقاطع فيها المصالح الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية في مقابل تراجع إيران.
والعراق، كما كان دومًا، يقف في قلب الحدث: لا ساحة صراع هذه المرة، بل مختبر الشرق الأوسط الجديد، حيث يُرسم مستقبل المنطقة بخيوطٍ ناعمة تحت شعار السلام، لكن على أنقاض معادلةٍ يُعاد بناؤها من جديد .
يتبع غدا الجزء الواحد والعشرون: النفط مقابل الماء.. صفقة غير معلنة رسمت حدود الضعف العراقي

