«بوش الأب».. المرشد الروحي للكوكب

2

 
طارق زيدان
 
 
لم أجد عنوانا في الصحافة الأميركية أكثر وصفا للرئيس الأميركي الراحل بوش الأب كعنوان مقالة الكاتب فرانكلين فيور في مجلة الأتلانتيك، بعنوان: «آخر الرؤساء الواسب»؛ و«الواسب» كلمة تختصر طبقة الإستابلشمنت الأميركي، وتعني الجنس الأبيض الأنجلو ساكسوني والبروتستانتي. تشي بذلك سيرة جورج بوش منذ ولادته، لون بشرته، شريكة حياته بربارا، المدارس والمعاهد التعليمية التي ارتادها، خدمته العسكرية ومشاركته في الحرب العالمية الثانية، المناصب التي تبوأها ولاسيما في قيادة جهاز المخابرات المركزية، سقوط طائرته العسكرية في بحر الصين ومقتل كل ركابها ونجاته وحيدا، سيرة تأتي في سياق سردية صناعة البطل الأميركي حيث يكون مفهوم البطل والبطولة مرادفا للشأن العام، وبذلك يكون بوش الأب ابنا للنظام الرأسمالي الجفرسوني الأطلنطي والرئيس الحادي والأربعين الذي يمثل «الإستبلشمنت» أيما تمثيل. سيرة مميزة بلا شك. هذا البطل الواسبي ابن عائلة فقيرة خرجت من ويلات الحرب الكونية الأولى، والده بريسكوت شيلدون بوش شارك كخبير ذخيرة في الجيش الأميركي لينتقل بعدها إلى عاصمة الحلم الأميركي نيويورك ويعمل مصرفيا متخصصا في الاستثمار، قبل أن يدخل عالم السياسة نائباً عن ولاية كونيتيكت.
 
 
في شبابه، انتقل جورج بوش الأب إلى ولاية تكساس. هناك أدرك علاقة الذهب الأسود (النفط) بالسياسة، أسس فيها استثمارات ناجحة ليعود مجددا إلى القطاع العام نائبا عن ولاية تكساس، في معقل السياسة الأميركية (الكونغرس) تعلم كيفية المشاركة في صنع قرار تقف خلفه مصالح وشركات، أتقن اللعبة إلى درجة أنها أوصلته سفيراً لواشنطن في الأمم المتحدة، ومن بعدها رئيسا لوكالة المخابرات المركزية مضيفاً إلى خبرته الإدارية والتجارية علاقة الأمن بالسياسة والسياسة بالاستراتيجية. التحق بوش بالسباق الرئاسي مرشحاً عن الحزب الجمهوري ومنافسا لرونالد ريغان، مستفيدا من كل عناصر البطولة التي يجسدها: المذهب واللون والمناصب وباقي سيرته، وعندما خسر معركة تبنيه من الجمهوريين، التحق بحملة ريغان مرشحاً لمنصب نائب الرئيس، فكان أن أمضى ثماني سنوات بصفته الرجل الثاني في البيت الأبيض بكل زواريب المهمة وتعقيداتها، هناك راح ينتظر دوره ووقته لتسجيل اسمه في التاريخ.
 
في العام ١٩٨٨ صار بوش سيد البيت الأبيض، فكان أول رئيس يحصد رياح التغيير في النظام العالمي، الشرارة انطلقت من جبال أفغانستان حيث غرقت موسكو، عسكريا وسياسيا، في مستنقع جهادي لا مثيل له، فكان الانهيار الكبير.
 
وفي لحظة مكر تاريخي، أسدى الرئيس العراقي صدام حسين أعظم هدية لقوات العم السام باحتلاله الكويت، فأقتنص البطل الواسبي الفرصة وتصدر المشهد بـ «عاصفة الصحراء»، عنوان حربه الخاطفة في الخليج العربي ليدخل التاريخ من بابه العريض. الرئيس الشاهد على «نظام عالمي جديد» نظّر له من على منبر الكونغرس الأميركي، غداة تفكك الاتحاد السوفياتي، ترك بصماته في العالم، وخصوصا في منطقتنا، بقيادته حرب تحرير الكويت ومن ثم تلزيم سورية تنفيذ اتفاق الطائف اللبناني وإطلاقه عملية السلام بين إسرائيل والعرب في مؤتمر مدريد للسلام.
 
مشروع القرن الأميركي الجديد نظر له بوش الأب، وتكون الكلمة الفصل فيه للبيت الأبيض بما أن التاريخ انتهى بحسب نظرية فوكوياما في كتابه بعنوان: «نهاية التاريخ».
 
بعدها تحول النظام الدولي من ثنائية قطبية إلى أحادية أمريكية، تربعت واشنطن رئيسة لمجلس إدارة كوكب الأرض تحكم البر والبحر والفضاء وما بينهما، على اثرها أعاد جيش العم سام خريطته العسكرية مقسما العالم إلى مناطق مركزية، حظي الشرق الأوسط بمسمى المنطقة الوسطى.
 
لكن للبطل الأميركي في الذاكرة الأميركية صورة مغايرة في ذاكرة شعوب أخرى ومنها شعوب منطقتنا، صورة مختلف عليها، وتحديدا في ذاكرة جيل الثمانينات من القرن الماضي، في مرحلة حكمه بين 1988 و1992 عاصر زعماء تركوا بصمتهم في التاريخ، بعضهم بالعنف كالرئيس العراقي السابق صدام حسين، وبعضهم مفككا لقطب دولي كالرئيس السوفياتي الأخير ميخائيل غورباتشوف، ومنهم من صنع بصمته بالاحتلال والمجزرة كأرييل شارون في صبرا وشاتيلا في قلب مدينة بيروت. ومنهم القليل بالمقاومة كنيلسون مانديلا رئيس جنوب أفريقيا.
 
ولا يمكن القفز فوق حكمة مستشار ألمانيا الغربية هلموت كول.
 
وهكذا دخل بوش الأب التاريخ متمما لأخلاق سياسية لم يمارسها، على رغم زعم كاتب المقالة في الأتلانتيك أنه يملك الشجاعة الأخلاقية. فهو، أي بوش الأب، كان عنيفا في ضرب بغداد بالصواريخ، ومستسلما أمام مجازر الكرد في العراق، وهادما لجدار برلين ومعه النظام العالمي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت نفسه، كان مقاوما شرسا لتجارة المخدرات خصوصا في القارتين الأميركيتين، ومحتلاً في دولة بنما بدافع كذبة، ومفككا للحقوق الفلسطينية المعترف بها أمميا في مؤتمر مدريد للسلام، ومتجاهلا لآفة العصر مرض الإيدز المميت.
 
والرئيس الأميركي الراحل جورج بوش الأب منظر النظام الدولي الذي نعيشه اليوم، نظام كثرت فيه الحروب الأهلية والتبعية الاقتصادية والعقوبات المالية، فأصبح كل رئيس لأميركا من بعده بطلاً مفروضا على الكون.
 
كل ذلك لم يكتبه فرانكلين في مقالته.
 
وعلى رغم هذه السيرة المختلف عليها، لم تؤهله إنجازاته من إعادة انتخابه رئيسا لدورة ثانية أمام شعار الحملة الانتخابية لمنافسه الرئيس كلينتون «إنه الاقتصاد يا غبي». رحيل الأب الروحي والمرشد العام للنظام العالمي الجديد المتهافت، يدفعنا للتأمل تجاه مآل العالم اليوم، عالم مشتت وبلا مرجعية ورئيس جديد يسكن البيت الأبيض يبحث عن البطولة، ولا تملك بلاده استراتيجية موحدة إزاء قضايا العالم ومنطقتنا.

التعليقات معطلة.