اخبار سياسية

تونس: صناعات تقليدية اندثرت وأخرى بحاجة للحماية والدعم

جانب من المدينة القديمة في العاصمة التونسية.

اندثرت حِرف عديدة من نسيج الصناعات التقليدية التونسية، ولم يبق من هذه الحِرف العريقة عراقة هذه البلاد سوى أسماء أسواقها؛ التي تحولت محلاتها داخل أسوار المدن العتيقة إلى مقاهٍ أو مطاعم للوجبات السريعة أو متاجر لبيع المواد الغذائية أو غيرها.

فمن يمرّ اليوم من “سوق السراجين” أو “سوق السكاجين” أو “سوق القلالين” أو “سوق الصباغين” أو “سوق الدباغين” أو “سوق البلاغجية” أو “سوق الحرايرية” أو “سوق الحصايرية”، أو غيرها من الأسواق المندثرة داخل أسوار المدينة العتيقة للعاصمة التونسية وخارجها، لن يجد أي أثر للحرفيين.

عامل الزمن

وكذلك لن يجد الباحث في الشوارع أيضاً منتوجات الصناعات التقليدية، من سروج أحصنة وأوانٍ فخارية وأقمشة مصبوغة وجلود مدبوغة ونعالٍ تقليدية مصنوعة، يطلق عليها التونسيون تسمية البلغة… ولن يجد حريراً ولا قماشاً محيكاً ولا حصيراً للافتراش في البيوت والمساجد وغيرها. كما لن يسمع تلك الأصوات التي كانت تصدر في الماضي عن الأنوال التقليدية وهي تحيك النسيج، ولا المطارق وهي تدق المسامير في النعال التقليدية وفي سروج الأحصنة، ولا أصوات أرجل العمال وهي تدوس الصوف والجلود وغيرها.

لم يبق من كل ذلك سوى الذكرى، فقد تغيّر نمط الحياة ولم يعد التونسي يتنقل بالأحصنة أو بحاجة إلى سرّاج يصنع له سرجاً، أو سكاجاً يزين هذا السرج، ولا إلى صبّاغ أو دبّاغ يلون له أقمشته وجلوده… فقد أصبحت المصانع الحديثة تتكفّل بذلك وتتكفّل أيضاً بصناعة القماش، فاستغنى عن النول التقليدي.

كما لم تعد البلغة ملائمة لتنقلاته خارج المدينة العتيقة، فاستعاض عن هذا النعال التقليدي الجميل بالأحذية العصرية والرياضية، فيما تُطرح تساؤلات بشأن اندثار سوق القلالين بالعاصمة، في وقت لم تنقطع حاجة التونسيين إلى الخزف، ولربما ارتأت الدولة أن  تقتصر هذه الصناعة على مدن نابل والمكنين وحزيرة جربة، التي تُعرف جميعها بشهرة خزفها على المستوى العالمي.

ومن أسباب اندثار بعض الصناعات التقليدية غزو الصناعات التركية والصينية للأسواق التونسية، فقد أصبح السجاد التونسي يُقلّد بأدق تفاصيله في الخارج ثم يُباع في تونس بثمن أقل مما يبيع به الحرفيون التونسيون، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الأقمشة والخزف المحلي والحلي التقليدية التونسية وقطع النحاس والفضة التقليدية وغيرها.

فالصناعة التقليدية التونسية وصلت إلى العالمية بفضل السياحة وبفضل الترويج لها خلال العقود الماضية، وهو ما سهّل تقليدها من قِبل أكثر من جهة. وهناك من جيران تونس من يقوم اليوم بالسطو على عدد كبير منها ونسبته إلى نفسه، والترويج لذلك في مواقع التواصل والصفحات الإلكترونية.

ضرورة التوثيق

وفي هذا الإطار، يرى الباحث التونسي في التاريخ والتراث أحمد المنصوري في حديثه لـ”النهار العربي”، أنّ التطور السريع للحياة أدّى إلى اندثار العديد من الصنائع وإلى اختفاء أسواق عدة من المدن العتيقة التونسية، على غرار سوق الدباغين الذي أُنشئ خارج المدينة العتيقة باعتبار صناعته “ملوثة”، وتحول اليوم إلى مكان لبيع الكتب القديمة، وسوق الصباغين القريب من باب الجزيرة أو باب دزيرة باللهجة التونسية وغيره.

وأدّى اندثار هذه الأسواق، بحسب المنصوري، إلى فقدان مدينة تونس العتيقة الكثير من سحرها ومن طابعها الخاص، وجماليتها التي تحدّث عنها الكثير من المؤرّخين في مراحل تاريخية مختلفة، وهي التي حلّت محل مدينة قرطاج وتوسعت لتحتضنها بداية من الحقبة الإسلامية في تاريخ تونس.

ويضيف المنصوري: “لقد كان لأصوات الأنوال داخل المدينة العتيقة وهي تحيك السفساري التونسي، أو الحائك، وهو لباس المرأة التونسية وعطاؤها الذي انتشر في المنطقة المغاربية انطلاقاً من تونس، سحرها الخاص. ولا يوجد تونسي سار في أزقة المدينة العتيقة إلى حدود بداية تسعينات القرن الماضي لم يسمع تلك الأصوات التي تحيك وتحفّز على العمل والجدّ والكدّ والبناء والتشييد؛ شأنها شأن أصوات من ينقشون على المعادن من نحاس وفضة على وجه الخصوص، ومن يدقون المسامير في الخشب والنعال وغيرها”.

ويتابع: “يشعر المرء وهو يتجوّل في هذه الأسواق العتيقة والعريقة عراقة هذه الأرض التونسية – الضارب تاريخها في القدم – بمدى حب التونسيين من الجيل الذي تقاعد اليوم للعمل، ومدى ترسخ ثقافة العمل فيهم خلافاً لما هو الحال اليوم. وإذ لا تزال مدينة تونس العتيقة تعجّ اليوم بالحياة، إلاّ أنّ الأمر في الماضي، وقبل اندثار هذه الأسواق، كان أفضل بكثير من حيث الحركية الاقتصادية؛ بخاصة أنّ أغلب الصناعات التقليدية التونسية لا يوجد لها مثيل في شمال إفريقيا، وكان يتمّ تصديرها إلى بلدان المنطقة على غرار الشاشية أو غطاء الرأس، التي ما زال التونسيون إلى اليوم وكما في الماضي، يصدّرونها إلى ليبيا، والنسيج من الحرير وغيره والحائك الذي يتمّ تصديره من تونس إلى الجزائر”.

وكذلك نشط في الماضي تصدير الصناعات التقليدية التونسية إلى البندقية وجنوى في إيطاليا وفالينسيا في إسبانيا وغيرها، وذلك منذ ما قبل عصر الدولة الحفصية (الدولة الإسلامية الرابعة بالبلاد). ودرّ هذا التصدير أرباحاً هامة على الاقتصاد التونسي في تلك العهود.

ويشدّد المنصوري على أنّ “هذه الصناعات المندثرة تُعدّ جزءاً من تاريخ تونس وهويتها، ووجب توثيقها في المتاحف وفي الأرشيفات حفاظاً على الذاكرة الوطنية من الاندثار، ومن أجل توفير مادة للباحثين في هذا المجال من الأجيال القادمة التي ستسمع عن هذه الأسواق التي تحتفظ بأسمائها إلى اليوم، لكنها لن تجد لها أثراً”.

إجراءات عاجلة

وترى الإعلامية التونسية المتخصّصة في الشأن الثقافي منى بن قمرة، في حديثها لـ”النهار العربي” أنّ ما اندثر من الصناعات التقليدية بحكم التطور الزمني هو “واقع وجب تقبّله”، وأنّه “لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء أو إيقاف الزمن”. لكن، وبحسب محدثتنا، ثمة صناعات لن تندثر بحكم حاجة الإنسان المستمرة إليها، على غرار صناعة الحلي وصناعة الخزف والسجاد وغيرها، وهي ما يجب المحافظة عليها وصيانتها والعمل على استمرارها وتشجيع حرفييها.

هذه الصناعات تتعرّض لخطر التقليد من دول أخرى تصنّعها وتعيد بيعها في تونس بأبخس الأثمان، فتضرّ بالحرفي التونسي وتجعله عاجزاً عن المنافسة، فيضطر إلى تسريح عمّاله أو إلى إغلاق محله وتغيير مهنته. وبالتالي يدعو العديد من النشطاء الى حماية هذا الحرفي من خلال منع توريد هذه الصناعات المقلّدة، بخاصة أنّ هذه البضاعة ستضرّ بسمعة السياحة التونسية عندما يعلم السائح أنّ ما يقوم بشرائه على أساس أنّه صناعة تقليدية تونسية هو مجرد تقليد لها.

ويؤكّد نشطاء وجوب الدعم المالي للحرفيين الذين لا يزالون إلى اليوم يعانون من مخلّفات جائحة كورونا، بعدما تراكمت عليهم الديون وعجزوا عن السداد، ولم ترحمهم البنوك ولا إدارة الجباية (الضرائب)، رغم أنّهم لم يعملوا خلال تلك الفترة. وما لم يتمّ اتخاذ مثل هكذا إجراءات عاجلة سينتهي المطاف بما صمد من صناعات تقليدية مندثراً على غرار ما سبقه إلى الاندثار، فتلتحق سوق العطّارين وسوق الشوّاشين وغيرها، بالسكّاجين والسرّاجين والدبّاغين والصبّاغين.