اخبار سياسية محلية

مستقبل كردستان العراق حال تنحي البارزاني

 

منى سليمان

أعلن رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني تنحيه عن منصبه، في كلمة ألقاها يوم 29 أكتوبر 2017، وذلك عقب سيطرة الحكومة العراقية المركزية في بغداد على مدينة كركوك، وجميع المناطق المتنازع عليها في شمال العراق، إثر تصاعد التوتر بين بغداد وأربيل، بعد رفض الاعتراف بنتائج استفتاء تقرير المصير، الذي أجراه البارزاني، تمهيدًا للانفصال عن العراق، وإعلان الدولة الكردية المستقلة.
وتعددت التساؤلات حول مستقبل الإقليم بعد البارزاني، وسط حالة من الانقسام الداخلي الكردي التي لم يشهدها الإقليم من قبل، مما يثير المخاوف حول حدوث حرب أهلية كردية، أو فراغ سياسي وأمني بالإقليم.
ملابسات التنحي:
يعد مسعود البارزاني (71عاما) رمزًا للشعوب الكردية، وزعيمًا لأكراد العراق، بيد أنه تعرض لهزيمتين ساحقتين، عسكرية وسياسية، متتاليتين كانتا الدافع لقرار التنحي عن منصبه، ورفض تجديد فترة ولايته. حيث إن البارزاني قد فاز بالانتخابات غير المباشرة في كردستان في 2005، وأعيد انتخابه في 2009 ، وحصل على 70 % من الأصوات في أول انتخابات عامة مباشرة أجريت بالإقليم.
وبعد مرور أربع سنوات، وانتهاء فترته الرئاسية، مدد البرلمان الكردستاني في 2013 ولاية البارزاني لعامين. وعند انتهاء ولايته في 2015، بقي في منصبه بسبب الوضع الأمني بالعراق، وسيطرة تنظيم “داعش” الإرهابي على ثلث مساحة البلاد.
وكان من المنتظر أن يمدد البرلمان الكردستاني في الأول من نوفمبر 2017 ولاية البارزاني لعامين آخرين، بيد أن الأخير فاجأ الجميع برسالة للبرلمان الكردستاني يوم 28 أكتوبر الماضي، يبلغه فيها بقرار التنحي، ثم ألقى كلمه متلفزة في اليوم التالي لإعلان موقفه للشعب الكردي. والهزيمتان هما:
الهزيمة السياسية: التي لحقت به، وتمثلت بفشله في إدارة أزمة الاستفتاء على الانفصال عن العراق. وبدأت الأزمة بإصراره على إجراء الاستفتاء، متجاهلاً كل الاعتراضات العراقية، والإقليمية، والدولية من تداعياته. وبعد الإعلان عن نتائج الاستفتاء التي جاءت بالموافقة على الانفصال، فرضت دول جوار كردستان الثلاث (إيران، والعراق، وتركيا) حصارًا بريًا، وجويًا، واقتصاديا على كردستان، ضاعف من الأزمة. كما رفض رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي اقتراح البارزاني ـتجميد نتائج الاستفتاء على انفصال كردستان، وطالب العبادي بإلغاء التصويت، كشرط لبدء أي مفاوضات بين بغداد وأربيل، مما مثل إحراجًا سياسيًا بالغًا للبارزاني، ودفعه لقرار التنحي.
الهزيمة العسكرية: تمثلت في فقدان البارزاني السيطرة على كركوك، والمناطق المتنازع عليها لمصلحة بغداد . تلك المناطق التي بسط أكراد العراق السيطرة عليها بعد تحريرها من قبضة تنظيم “داعش” الإرهابي. وقدمت قوات البيشمركة تضحيات بشرية ومادية لتحريرها، وقد ضاعت هباءً تلك التضحيات بعد فقدانها دون قتال أمام القوات العراقية المدعومة من ميليشيات “الحشد الشعبي”، مما دفع الأحزاب الكردية المعارضة له في كردستان، وبعض الموالين له إلى اتهام البارزاني بالمسئولية عن تلك الهزائم، وعن التهديدات التي يتعرض لها الإقليم الآن سياسيًا، وعسكريًا، واقتصاديًا. لذا، كان قرار البارزاني الصائب بضرورة التنحي، لاسيما أنه قد أنهى المدة القانونية لفترته الرئاسية منذ عامين، وتم تجديدها من قبل البرلمان الكردي دون إجراء انتخابات رئاسية.
أهداف التنحي:
استطاع البارزاني تحقيق عدة أهداف من قرار التنحي، ومنها:
كسب التعاطف الشعبي: فعقب إعلان البارزاني عن قراره التنحي في كلمته التي أعلن فيها تحمله مسئولية الأحداث التي مرت بكردستان خلال الشهر الماضي، ارتفعت شعبيته، وبدا بمظهر القائد الشجاع التي يعتذر ويتنازل عن حكمه.
التهرب من المسئولية: إذ يستهدف تنحي البارزاني – بحسب البعض- الهروب من تحمل المسئولية، لاسيما في ظل الخسائر السياسية والاقتصادية التي تلحق بالإقليم، وبلغت حد مطالبة بغداد بإلغاء الحكم الذاتي لكردستان، وضم محافظاته للعراق.
ويملك البارزاني 19 صلاحية كرئيس لإقليم كردستان، ستوزَّع لـثلاث صلاحيات للبرلمان، أبرزها إصدار القوانين والقرارات بشكل مباشر من البرلمان بدلاً من إصدار مرسوم رئاسي بها كالسابق، وثلاث صلاحيات للسلطة القانونية. أما الصلاحيات الأخرى المتبقية، فستكون لرئاسة مجلس وزراء الإقليم، ومن أبرزها قيادة القوات المسلحة في كردستان. وبهذا التوزيع، يكون البارزاني قد منع حدوث فراغ سياسي ودستوري بعد تنحيه عن منصبه.
وسيحصل رئيس حكومة كردستان الحالي نيجيرفان بارزاني (نجل أخيه) على معظم صلاحيات رئيس الإقليم، بجانب صلاحياته كرئيس حكومة حتى إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية جديدة بالإقليم. ويستهدف تولى نيجيرفان الحفاظ على توازن القوة داخل الإقليم بين عائلة البارزاني الأقوى، والأكثر تأثيرًا، ومنافسيها من عائلة الطالباني والأحزاب المعارضة، كحزب التغيير والجماعة الإسلامية، وتلك القوى كانت أول من طالب البارزاني بالاستقالة.
الإعداد للمرحلة القادمة: كرر البارزاني في كلمته أن ما حدث في كركوك كان نتيجة خيانة عظمى من الداخل، وأنه سيعود مقاتلا مرة أخرى في قوات البيشمركة الكردية، وسيعمل للحفاظ على المكاسب التي حققتها كردستان. ويعد هذا إعلانا ضمنيا عن إعداده لترتيبات داخلية للرد على هذه الخيانة عبر الثأر، وفق الموروثات العشائرية الكردية. والمقصود بالخيانة – بحسب التقارير- هو الاتفاق الكردي – الشيعي الذي أبرمه نجل الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني لتسليم كركوك دون قتال. ولذا، من المنتظر أن تبدأ حلقة جديدة من الصراع التاريخي بين العائلتين (الطالباني والبارزاني) المسيطرتين علي الإقليم الذي شهد حربا أهلية بينهما استمرت لأربع سنوات (1994-1998).
إحراج واشنطن إقليميا ودوليا: في كلمة التنحي التي ألقاها البارزاني، اتهم الولايات المتحدة الأمريكية بالتواطؤ مع ميليشيات الحشد الشعبي المدعومة من قبل إيران للسيطرة علي مدينة كركوك النفطية والمناطق المتنازع عليها، وإلحاق هزيمة عسكرية بالقوات الكردية التي تستخدم سلاحا أمريكيا، وحليفة دائمة لواشنطن. وفي هذا الأمر تكرار للسلوك الأمريكي بالتخلي عن حلفائها. كما وصف أحد نواب حزبه أن ما حدث في كردستان مؤامرة دولية تستهدف البارزاني كرمز للاستقلال والتحرر.
ردود الفعل:
رحبت الحكومة العراقية المركزية ببغداد، وإيران، وتركيا بقرار تنحي البارزاني، لأنه أصبح خصمًا مشتركًا لها، وكذلك رحب بالقرار الأحزاب المعارضة داخل كردستان العراق. وتوالت بعض ردود الفعل الدولية، ومنها:
الولايات المتحدة الأمريكية: حيث أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية بيانًا يوم 30 أكتوبر 2017 يشيد بقرار البارزاني، ويصفه بأنه شخصية تاريخية، وقائد شجاع لشعبه، كما أشادت بتوزيع صلاحيات الرئاسة على سلطات الإقليم. وطلبت أربيل وبغداد ببدء حوار عاجل بينهما لإنهاء كل الملفات العالقة. كما حمل البيان الأمريكي دعوة لبغداد لتقييد تحركاتها في المناطق المتنازع عليها مع إقليم كردستان، لأن سيطرة قوات الحكومة المركزية عليها لا تعني تغيير حالتها، فهي تبقى تحت التوصيف ذاته، أي مناطق متنازع عليها تنتـــظر حلاً دستورياً عراقياً.
ويرغب الموقف الأمريكي في الحفاظ على توازن القوة الذي اختل بين بغداد وأربيل، لاسيما أن واشنطن تدرك أهمية تلك المناطق. كما أن واشنطن ترفض تقسيم الدول العربية في الوقت الراهن، لأنه غير مناسب لمصالحها القومية، وترغب أيضا في تخفيف حدة الأزمات التي يعانيها الشرق الأوسط، والمستمرة منذ 2011 حتى الآن، والتي ضاعفها استفتاء كردستان، والمطالب بالانفصال، فضلا عن المشكلات داخل الإدارة الأمريكية التي بلغت حد المطالبة بعزل الرئيس دونالد ترامب، وتلك تعد قيدًا على تحركات واشنطن الخارجية في الوقت الراهن.
الموقف البريطاني: حيث أوضح وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون أن تقاعد البارزاني أتاح فرصة لجيل جديد من الأكراد لبناء مؤسسات ديمقراطية قوية، وحل الخلافات التاريخية بين حكومة إقليم كردستان وحكومة العراق بما يتفق مع الدستور العراقي. واتصل جونسون برئيس حكومة إقليم كردستان نيجيرفان البارزاني (له صلاحيات رئيس الإقليم)، ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، وحثهما علي إيجاد حل سريع وسلمي للخلافات بين أربيل وبغداد. وكرر جونسون دعم المملكة المتحدة المستمر للأكراد داخل العراق الموحد. والموقف البريطاني ملتزم بمبدأ رفض تقسيم الدول، وهو الموقف نفسه الذي تبنته بريطانيا لرفض انفصال إقليم كتالونيا عن إسبانيا، حتى تكتسب المصداقية في مواقفها الداخلية.
سيناريوهات المستقبل:
هنالك عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل كردستان العراق بعد تنحي البارزاني، وهي على النحو الآتي:
السيناريو الأول- اتفاق عراقي – كردي: ويقضي بتوصل بغداد وأربيل لاتفاق سياسي ينظم التعاون بينهما مع الالتزام بوحدة العراق، والحفاظ على طبيعة الإقليم، والحكم الذاتي به. وبدا تنفيذ هذا السيناريو يلوح في الأفق، عقب إعلان بغداد الاتفاق فرض قوات عراقية على معبر “إبراهيم الخليل” (فيشخابور) الحدودي مع تركيا والذي يبلغ حجم التبادل التجاري عبره سنويا نحو 5 مليارات دولار.
كما عقدت قيادات عراقية وكردية أولى جلسات المباحثات لحل الملفات العالقة بينهما في 29 أكتوبر 2017، وكانت النتائج إيجابية. ودارت المباحثات حول وقف إطلاق النار بين قوات الجيش العراقي والقوات الكردية “البيشمركة”، والتزام الإقليم بحدود الخط الأزرق لعام 2003. ويضم الخط الأزرق للإقليم مدن (السليمانية، وحلبجة، ودهوك، وأربيل).
السيناريو الثاني- إلغاء الحكم الذاتي بالإقليم: ويقضي بفرض بغداد السيطرة على الإقليم، وهو ما ألمح إليه العبادي الذي دعا لفرض السلطة الاتحادية العراقية على عموم البلاد، والسيطرة على المنافذ الحدودية السبعة، فضلا عن منافذ تصدير النفط لتركيا، والتي كانت تخضع لسيطرة أربيل. وحال تم ذلك، فإن إقليم كردستان سيفقد جميع المكتسبات التي حققها بعد عام 2003، حيث تعززت سلطاته المحلية بالإقليم، مثلما فقد مكتسبات حققها أيضا بعد عام 2014، عندما انخرطت قواته في محاربة “داعش”، وألحقت هزائم بالتنظيم أدت لدحره. ويهدف العبادي إلى استغلال قوته الراهنة، والدعمين التركي والإيراني له، واللذين مكناه من استعادة المناطق المتنازع عليها، والمنافذ الحدودية، فضلا عن لحظة الانقسام الكردي الحالي عقب تنحي البارزاني لفرض سيطرة الحكومة الاتحادية على كردستان.
بيد أن هناك أمرين سيحولان دون ذلك، الأول: رد الفعل الكردي، حيث لن يقبل القادة الأكراد المؤيدون والمعارضون لبارزاني بالتنازل عن الحكم الذاتي الذي يتمتع به الإقليم منذ عقود، والموافقة الكردية على الانسحاب، دون قتال، من كركوك، وسائر المناطق المتنازع عليها، لأن ذلك يعني الاستسلام التام لبغداد. أما الأمر الآخر، فهو استمرار “وجود داعش” في بعض المدن العراقية، وربما يستغل الصراع العراقي- الكردي ليتمدد مرة أخرى، وينتشر بالبلاد، وهو ما حذرت منه واشنطن، وطالبت بغداد بوقف التحرك العسكري ضد أربيل.
السيناريو الثالث- صراع كردي – كردي: يؤدي إلى تمزيق الإقليم، وسيكون البادئ به البارزاني سعيا للانتقام ممن اتهمهم بخيانته، وخيانة الأكراد. وقد بدأت بالفعل بعض العمليات الانتقامية من أنصار البارزاني ضد معارضيه، من بينها اغتيال صحفي معارض، وحرق مقرات أحزاب معارضة، فضلا عن مخاوف من حدوث أعمال تخريبية من قبل الأكراد في كركوك. فرغم تنحي البارزاني، فإن عائلته لا تزال الأقوى والمسيطرة على الإقليم، ولها نفوذ لا يقوى على منافسته أحد من معارضيه. كما أن البارزاني سياسي محنك لا يستسلم بسهولة، وتعرض للعديد من الأزمات في حياته، وعقد تحالفاته مرات عدة لتحقيق أهدافه. ولذا، فمن المتوقع أن يكون له رد فعل قوى على ما حدث بكردستان. وربما تغذي الحكومة العراقية ببغداد ذلك الصراع، حتى يتمزق الإقليم، وتسهل السيطرة عليه، أو تغذيه دول إقليمية معادية للأكراد كتركيا وإيران اللتين من مصلحتيهما أن يضعف الكيان الكردي القوي الوحيد في المنطقة، مما يمثل مثالا لا يُحتذي به لأكراد دولهم، وينهي حلم وجود دولة كردية في المستقبل القريب.
ختامًا، فإن إقليم كردستان العراق يمر بمرحلة انتقالية في تاريخه، وما شهده خلال شهر واحد سيحدد مستقبله، بدءًا من الاستفتاء على الانفصال، وخسارة كركوك، ثم تنحي البارزاني. فالإقليم فقد كل المكتسبات السياسية، والعسكرية، والاقتصادية التي حققها منذ عام 2005، والتي تضاعفت بعد عام 2014 بعد انتصارات قواته البيشمركة في دحر “داعش”، مما دفع دولا كبرى، كالولايات المتحدة وألمانيا، لتقديم معونات عسكرية للبيشمركة لمحاربة الإرهاب. ويواجه إقليم كردستان العراق مستقبله بلا أي دعم إقليمي أو دولي، أو تعويض عما فقده من خسائر مادية وبشرية، خلال مواجهة “داعش”، وتبقى الدولة الكردية حلما لم يحن الوقت لتحقيقه.

تابعنا على الفيس بوك

Facebook Pagelike Widget