مقالات

مشاعر هزمتنا في المباراة الحاسمة

خالد البري

خالد البريإعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي – عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».

مع اتجاه كرة القدم إلى الاحتراف، كان معتاداً أن نسمعَ قائمة من التحذيرات من الأثر السيئ الذي سيتسبب فيه. وانصبت الانتقادات على نقطة جوهرية، أن الاحتراف يلغي مشاعر الولاء والانتماء للنادي، ويحول اللاعبين إلى ماكينة شفط أموال، ويخرب العلاقة الوطيدة بين اللاعب والجمهور. يُقدَّم الولاء والانتماء في هذه الرؤية بوصفه الشعور الأساسي المحرك لبذل الجهد والتفاني في سبيل مجموعة.

لم يحدث أي من تلك التوقعات. مع الاحتراف، وتدفق المال، وارتفاع أسعار اللاعبين ومداخيلهم، وانتقالهم بين الأندية، صارت اللعبة أفضل، وتطورت مهارياً وخططياً وبدنياً، وتطورت اقتصادياً بوصفها قطاعاً مربحاً ومؤثراً، أضعاف ما كانت. وصار دورها الاجتماعي أوسع أثراً. ويمكننا القول بثقة إنَّ أخلاقَ اللاعبين صارت أفضلَ، حيث إنَّ جهات عديدة – من شركات التأمين إلى شركات الرعاية – من مصلحتها أن تضمنَ السلامةَ والتزام حدود سلوكية. الاحتراف الكروي قدم نموذجاً ناجحاً بوصفه إدارة اقتصادية، و«البريميرليغ» يشهد بالأرقام. الموضوع ليس نجوماً يتقاضون ملايين، بل منظومة متكاملة.

أين الخطأ إذن؟ هل كانت التحذيرات جهلاً أم تضليلاً؟

لا يزال اللاعب إلى يومنا يشعر بالانتماء إلى النادي، وإلى زملائه، وإلى غرفة الملابس، وإلى الجمهور، هذه مشاعر طبيعية تربطنا بالأماكن التي نألفها، والبشر الذين تضعنا التجارب معهم على نفس الضفة من الفرح وخيبة الأمل. ما فعله الاحتراف كان توسيع السلة الشعورية. لم يلغ، بل أضاف. فتح منفذاً لمشاعر المنافسة، وحب المال، وحب الشهرة، والطمع، والرغبة الملحة في النجاح. وهي مشاعر طبيعية أيضاً، كونها موجودة فينا. لكنَّها تقدم في المجتمعات التقليدية بوصفها مشاعر سلبية، وتناولها في الدراما والنصوص سلبي. ليس في الاحتراف الكروي فقط، وإنَّما في الحياة بشكل عام. الأخ الناجح يقدم على أنَّه «الذي تغير ونسي أصله». ورجال وسيدات الأعمال يقدمون على أنَّهم لصوصٌ مفترون لا يبالون بمن حولهم. تنويعات على وعي «بلطية العايمة» كما أعاد تعليبها الفيلم المصري الذي يحمل اسمها.

هذا النوع من الوعي مرتبط بسلة شعورية تشبه ما يعرفه الطفل في نموه. يعتمد الغذاء بداية على الحليب، ثم أطعمة صلبة سهلة الهضم، وصولاً إلى الوجبات المعقدة. ويتوازى النمو بدنياً وشعورياً. تفاعله مع سلة أكبر من المشاعر في كل مرحلة يعطي النفس مغذيات شعورية أكثر تنوعاً، والنتيجة ما نرى من فارق بين لاعب كالحصان يتفوق في الأساسيات، ويتفوق في الذكاء التكتيكي، وبين لاعب هزيل لا يستطيع لعبَ أكثر من مباراة في الأسبوع. وما يناظر ذلك في مجالات أخرى غير كرة القدم.

التحديث الرأسمالي أدركَ مبكراً أنَّ المشاعرَ التنافسية إيجابية في تطور المجتمعات، كما كانت إيجابية في الحفاظ على الأنواع خلال منافسات التطور الطبيعي. وهي مثل بقية المشاعر التي يعرفها الإنسان، نحتاج منها مقداراً مختلفاً لكل طبخة. نريد غضباً عارماً في ميدان الحرب، ونريد مزيداً من التسامح في البيت وبين الأهل والجيران، ونريد قدراً معيناً من الطمع، ومن حب التملك، ومن الرغبة في التميز فوق الأقران، تدفعنا إلى العمل. ومن هذا الإدراك نمت نظم لإدارة الاقتصاد والمجتمع تتناسب معه.

حين تعمل في موقع إداري يسعى إلى تحقيق ربحية يمكنك أن تستكشفَ بنفسك أهمية هذه «المشاعر الرأسمالية». إنَّ الإنسان لا يستجيب طويلاً للكلام عن حب الشركة والانتماء إليها، بقدر ما يستجيب للمحفزات المادية، وللتقدير، والشعور بالتميز، ثم محفزات مادية أخرى. ترى في طبائع الموظفين الذين يعملون معك بذور تمايزهم، ليس بما يحمل واحدهم من ولاء وانتماء، بل بما يملك من مشاعر المنافسة والرغبة في النجاح في مقابل شخص لا يمتلكها. ليست هذه مشاعر سلبية نتسامح معها بسبب الحاجة العملية. لا، بل هي مشاعر رئيسية ذات فائدة، لكنَّها في الحيز الاقتصادي أساس لا غنى عنه، إذ تتراكم مئات ملايين الفروق الضئيلة لتصنع فرقاً هائلاً بين مجتمعين.

التقييم السلبي لتجربة الاحتراف ناتج من ضِيق أفق شعوري، ينتشر في المجتمعات التي لم تحدث اقتصادها، ولم يختبر أفرادها التنافسية والصراع على المكسب وما يأتي معهما من تجربة شعورية.

يضيف هذا بعداً آخر في المفاضلة بين الوعي الرأسمالي الإداري، والوعي الاشتراكي، لا يُقارِن بينهما بالنظر إلى الصحة والخطأ لكل قيمة يطرحانها على حدة، بل إلى ثراء وتنوع الموجود في سلته الشعورية، بوصفه مؤشراً على ثراء قيمه وتنوعها ومرونتها.

أرى أنَّ سعة الأفق الشعورية ملمح أساسي في قدرة النظام الرأسمالي على إدارة مجموعة بشرية، وعلى تشجيع الإبداع والابتكار وتنمية المهارات الأساسية والفرعية للأفراد، والوصول إلى صيغة مرْبِحة للفرد والكيان كليهما.