آمال إيران

7

حازم كلاس

“أرض الأمل”… هكذا كُتب على الجدارية الرئيسية في ساحة ولي عصر، وسط طهران، شعاراً اختير ليكون عنواناً لإحياء الذكرى السادسة والأربعين للثورة الإسلامية الإيرانية. مقابل هذه الجدارية الضخمة، على الطرف الآخر من الساحة، وفي مقهى صغير، جلست آرزو تحتسي القهوة وهي تراقب أجواء إحياء ذكرى الثورة.

تغیّر الکثیر في هذه البلاد. كان الإيرانيون يشربون الشاي، لكن رائحة القهوة باتت اليوم تعبق في زوايا كثيرة من مدن إيران، منذ بضع سنوات يزداد استيراد القهوة بمعدل 40% تقريبا سنوياً. المذاق الذي تفضله آرزو وقريناتها ممن هن في العشرينيات من العمر مختلف، لم يغيّرن القهوة بالشاي فقط، بل كسرن قيودا كثيرة… يرتفع معدّل التدخين في إيران السجائر والشيشة (النرجيلة) على حد سواء، 20 إلى 25% ممن تزيد أعمارهم عن 25 عاماً يدخنون الشيشة، بحسب إحصاءات رسمية، كما أن معدل التدخين ارتفع بين الإناث، وهو ما كان ممجوجاً اجتماعياً، من 2.4%عام 2016 إلى 4.2% عام 2017، وهو في ازدياد مع وصول سن البدء بالتدخين إلى تسع سنوات. إنه جيل زد الإيراني يتشارك، في بعض الخصائص، مع أقرانه في العالم، ويختلف عنهم في أخرى.

… شبابٌ لم يعد اهتمامهم بالسياسة كالسابق، والمهتمون منهم تسلّل اليأس إلى نفوسهم، ربما، سجلت الانتخابات الرئاسية في إيران في يونيو/ حزيران 2024 نسبة مشاركة متدنية، كانت أشبه بناقوس خطر للنظام، يقول استطلاع رأي أجراه مركز إيسبا: الثقة بالحكومة والأمل بنجاحها يتراجعان تدريجيا بين بداية تسلمها مهامها وختام ولاية رئيسها، ففي بداية الولاية الأولى لحكومة حسن روحاني وصلت هذه النسية إلى 47.9% لكنها تدنت إلى 11% في بداية ولايته الثانية. ومع فوز إبراهيم رئيسي، قال 40% من المستطلعة آراؤهم حينها إن الحكومة قادرة على ضبط التضخّم والغلاء، وبعد عام انخفضت هذه الثقة إلى 27%. وبعد وفاة رئيسي، أفاد استطلاع للرأي لـ”إيسبا” أيضا بأن 48.3% يرغبون بتوجّه مختلف للرئيس المقبل عن الرئيس رئيسي. عدم تحقيق التغییر والتحول المنشود يؤدّي إلى انزواء اجتماعي لهؤلاء وغيرهم مصحوب بغضبٍ قد يعتمل في النفوس أو يتفجّر. هو تحدٍّ لا يغيب عن ذهن النظام الذي سيكون عليه تنظيم انتخابات رئاسية وأخرى تشريعية على الأقل قبل الاحتفال باليوبيل الذهبي للثورة.

تصاعد الحديث في إيران عن جيل زد بعد احتجاجات 2022 التي اشتعلت إثر وفاة الشابة مهسا أميني عقبَ قبض شرطة الأخلاق الإيرانية عليها، حينها كانت الشعارات تُكتب على جدران المدن الإيرانية ببخاخات تطالب بالحرية وتدين العنف وتنتقد النظام… واليوم تستخدم جدارية الذكرى السادسة والأربعين للثورة الأسلوب نفسه، “أرض الأمل” تُكتب بيد طفل بالبخّاخ وفي الخلفية شعارات انتشرت عام 1979.

يقول استطلاع رأي أجراه مركز إيسبا: الثقة بالحكومة والأمل بنجاحها يتراجعان تدريجيا بين بداية تسلمها مهامها وختام ولاية رئيسها

… ومن يعرف إيران يلمس التغيير الذي تعيشه، ليس اجتماعيا فقط وإنما على صعد مختلفة، ففي بلد مختلف، ومتنوع، تتشابك خيوط السياسة حتى يكاد يصعب فكفكتها. عام 2009 رُفعت شعارات “لا غزّة … لا لبنان”، تزامنا مع احتجاجات تبعت الانتخابات الرئاسية في البلاد آنذاك… لم يغيّر ذلك موقف النظام، فالقضية الفلسطينية حجر زاوية في مبادئ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وجبهة المقاومة (كما تسمّيها إيران) ترجمة لذلك وجزء أساسي من الأمن القومي الإيراني. في 2020، اغتيل مهندس نفوذ إيران الإقليمي قاسم سليماني، بعدها تواصلت اغتيالات ضباط الحرس الثوري الإيراني في سورية، لكن ذلك كله كان في كفّة، وما حصل بعد “طوفان الأقصى” في كفة أخرى. من غزّة إلى لبنان وصولاً إلى العراق، مرورا بالأهم، وهو خروج إيران من سورية ووصول الاشتباك بين طهران وتل أبيب إلى استهدافات مباشرة متبادلة بينهما، ارتسم مشهد جديد ترفض طهران الاعتراف بأنه أضعفها، وتدلل على ذلك بموقعها الجيوسياسي وقدراتها الداخلية وعدم تحقيق الأطراف المقابلة أهدافها بالقضاء على حركة حماس أو تدمير حزب الله بالكامل أو غير ذلك.

وبعيداً عن الشرق الأوسط تبدو العقدة الأهم هي أميركا. الوعود باستعادة الاتفاق النووي ووقوف مهندسه محمد جواد ظريف إلى جانب مسعود بزشكيان في الانتخابات الرئاسية عام 2024 في إيران ساعد جدّا في وصول بزشكيان ذي الميول الإصلاحية إلى كرسي الرئاسة في إيران. لا إحصائيات أو استطلاعات رأي رسمية تنشر حول آراء الإيرانيين بشأن العلاقة بين طهران وواشنطن، ولكن يمكن لمس وجود ربط واضح لدى إيرانيين كثيرين بين علاقة بلادهم المتوترة بالغرب والولايات المتحدة والعقوبات التي يتحمّلونها منذ عقود والأوضاع المعيشية والاقتصادية الصعبة التي يرزحون تحتها. وتشاء الأقدار أن يعود ترامب إلى البيت الأبيض، والذي لا يمكن للإيرانيين، نظاماً وشعباً، نسيان أفعاله تجاههم، والتي عنونت “بالضغوط القصوى” في ولايته الأولى، بالتزامن مع جلوس بزشكيان في مكتبه في باستور، وسط طهران.

… قبل أيام من ذكرى الثورة، عقد اجتماع هام، للمرّة الأولى يجلس رؤساء ومعاونو السلطات الثلاث في إيران (الحكومة والبرلمان والقضاء) تحت سقف واحد. اجتماع غير مسبوق “لا يمكن معه تعليق الأخطاء على شمّاعة أي طرف آخر، فكل ما يحصل في إيران، جيد أو سيئ، تقع مسؤوليته على عاتق المجتمعين، هكذا قال رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، مضيفا “وقعت الثورة في إيران في ظل الوحدة واستمرارها يتطلب الوحدة”.

رغم الشعارات التي رفعت في الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها البلاد عام 2022، والمرتبطة بالحريات بشكل أساسي، إلا أن الجميع يتفق على أولوية الاقتصاد للجميع، في ظل أرقام غير رسمية تشير إلى ارتفاع خط الفقر في البلاد. “صحيح أن الإحصاءات والأرقام تقول إن التضخّم تراجع والسيولة النقدية كذلك.. لكن الناس لا يشعرون بذلك، وعلينا العمل ليلمس الشعب التحسّن… وقدرة تحمل الناس في القضايا الاقتصادية وصلت إلى مرحلةٍ لا يمكن معها ممارسة ضغط أكبر”، يقول قاليباف.

مع السعي إلى توحيد الكلمة وضبط الأوضاع في الداخل، يؤمن النظام الإيراني بقدرته على تحسين الظروف المعيشية والاقتصادية بالاتكاء على الداخل

الابتعاد عن المناكفات السياسية وتوحيد الكلمة تحت شعار “الوفاق الوطني” الذي يتبنّاه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان هو الحل، يقول رئيس السلطة القضائية الإيرانية غلام حسين محسني إجئي، معتبراً أن عدم تحقيق الكثير من النجاح في تنفيذ السياسات العامة والخطط الخمسية السبع السابقة في البلاد يعود إلى عدم التوصل إلى توافق حول القضايا الأساسية في البلاد.

كلام بدا متناغما بين أطراف إيرانية مختلفة في توجهاتها السياسية، وقد يبدو سهلاً، لكن تنفيذه ليس بالأمر السهل، يقول الرئيس بزشكيان، وهو ينتقد إنزال أشخاص من قطار الثورة لزلّة واحدة ارتكبوها بعد خدمات كثيرة قدّموها، ويقول: “كل التحليلات الغربية تقول إن إيران باتت ضعيفة وفي أسوأ حالاتها، ويمكننا توجيه ضربة لها، وبدء ذلك يمكن أن يكون من خلال زرع الفرقة والخلاف بين الناس ودفعهم إلى الشارع ثم ركوب الموجة…”. وكان اجتماعاً بدا غاية في الأهمية في توقيته، إذ جاء أيضا بعد أيام على تجمّعات في طهران رفعت شعارات تدين رؤساء السلطات الثلاث في البلاد.

… بين أوضاع داخلية صعبة، خاصة اقتصادياً، ومشهد إقليمي معقد، بعد “طوفان الأقصى”، وظروف دولية مختلفة، مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يتصاعد النقاش في إيران، يدلي كل بدلوه، ندوات ولقاءات ومقالات في الفضاءين السياسي والإعلامي الإيرانيين، أشبه بعصف ذهني، حسمه المرشد الأعلى: “المفاوضات مع أميركا ليس لها أي تأثير في حل مشكلات البلاد. علينا أن نفهم هذا بشكل صحيح؛ لا تدعوهم يروّجون أنه إذا جلسنا على طاولة المفاوضات مع تلك الحكومة فهذه المشكلة أو تلك سوف يتم حلها. لا؛ لن تُحلّ أي مشكلة بالتفاوض مع أميركا. السبب؟ التجربة!”. ليوضح وزير خارجية إيران عباس عراقجي لاحقاً “أظهرت تجربة الاتفاق النووي أن أميركا لا تفي بالوعود، وإيران لن تسمح بتكرار هذا الخرق مجدّداً. إيران لا تريد التفاوض مع دولةٍ توقع في الوقت نفسه على عقوبات جديدة. يجب أن يشعر من يفرض العقوبات بخيبة الأمل. ومن هنا، مهمة تحييد العقوبات واجب عام”.

وكأنه عودٌ على بدء، قصة إيران والولايات المتحدة.. لكن ما فسره بعضهم هرولة إيرانية وراء المفاوضات مع أميركا هو في الواقع ترك الباب موارباً، ورمي للكرة في ملعب ترامب مع تحديد شروط واضحة له: لا مفاوضات تحت الضغوط.

تغيّرت إيران طوال أكثر من أربعة عقود على عمر جمهوريتها الإسلامية، لكنها حافظت على معادلة “البراغماتية السياسية والثوابت الإيديولوجية والأدوات الثورية”

ومع السعي إلى توحيد الكلمة وضبط الأوضاع في الداخل، يؤمن النظام الإيراني بقدرته على تحسين الظروف المعيشية والاقتصادية بالاتكاء على الداخل. يقول الرئيس بزشكيان تعليقا على تأكيد المرشد عدم التفاوض مع إدارة ترامب في ظروفٍ كهذه: “لا يمكن الطيران بأجنحة مستعارة”. هي مهمّة ليست سهلة مع أوضاع صعبة تعيشها البلاد، إن لجهة إيجاد طرق للالتفاف على العقوبات ومحاربة الفساد أو معالجة مشكلات متراكمة في توفير الغاز والطاقة والمياه ومعالجة مشكلات التلوث في المدن الكبرى.

أما الواقع الأمني، فلا يبدو أنه يُقلق طهران كثيراً. عوضت، كما تقول، ما خسرته في الاستهداف الإسرائيلي الذي طاول دفاعاتها الجوية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بعد عملية الوعد الصادق 2 التي نفذتها ضد إسرائيل، وبدأت منذ أشهر مناورات مستمرّة لكل قواتها المسلحة من جيش وحرس ثوري وقوات تعبئة وغيرها، وجميعها ذات طابع أمني دفاعي، وكشفت عن عدة “مدن سرّية تحت الأرض” صاروخية وبحرية، وأدخلت إلى الخدمة أول حاملة طائرات مسيّرة و… تواصل برنامجيها الفضائي والنووي بقوة.

… قبل سنوات، قال كبير مستشاري المرشد الإيراني للشؤون العسكرية يحيى رحيم صفوي: “على طهران أن تزيد من عمق دفاعها الاستراتيجي إلى خمسة آلاف كيلومتر خارج الحدود. الإيرانيون وصلوا ثلاث مرّات إلى البحر المتوسط، مرّتين منها في عهدي الملكين الأخمينيين قورش الأول وداريوس الأول، وآخر مرة بواسطة حزب الله اللبناني”. ولكن قائد الحرس الثوري حسين سلامي يقول اليوم: “استراتيجيتنا الردعية لا تقوم على أساس أراضي الآخرين، فردعنا سواء بالأراضي أو بالقرار أو القدرة أو التنفيذ إيراني صرف”. ويتساءل: “الأعداء يسعون في ظل التطورات الأخيرة في المنطقة لتثبيت مقولة إن إيران فقدت أذرعها الرادعة، وباتت ضعيفة. لكن، هل نحن اليوم أقوى على إغلاق المضائق أم في السابق؟ هل اليوم أقوى بعد أن زودت صواريخنا ذات المديات التي تصل إلى آلاف الكيلومترات بالذكاء الصناعي أم في السابق؟ هل تراجع تأثير إيران في إدارة أمن العالم واقتصاده وطاقته؟ هل نواجه نقصاً في صواريخنا وطائراتنا المسيّرة وقطعنا البحرية التي تشكل جزءاً مهماً من قدراتنا الردعية؟ هل بات الشعب الإيراني أضعف؟ لا وإنما بات أكثر تصميما ووعيا. هل هذا ضعف أن تكون إيران الدولة الوحيدة التي ينزل فيها الناس بسياراتهم في منتصف الليل احتفالا بقصف قاعدة عسكرية للعدو، وأن تكون الدولة الوحيدة التي يتراجع فيها سعر النفط، وتنخفض قيمة العملة الأجنبية عند إطلاق الصواريخ. هل تراجعت إيران عن مواقفها السياسية؟ هل فقدنا القدرة على قصف قواعد العدو في المنطقة؟ هل إسرائيل اليوم أكثر أمنا مما كانت عليه قبل عام ونصف العام؟ هل اقتصادها أقوى؟ هل وضعها السياسي أفضل أم باتت أكثر انزواء؟ هل الأوضاع الاجتماعية في إسرائيل اليوم أفضل أم سابقا؟”.

توازن إيران في تصريحاتها بين التهديد والترغيب، وفي إطار إعادة صياغة معادلتها الردعية على خلفية ما مني به حلفاؤها في المنطقة ومحاولة وضع شروط للتفاوض مع أميركا

رغم ذلك، توازن إيران في تصريحاتها بين التهديد والترغيب، وفي إطار إعادة صياغة معادلتها الردعية على خلفية ما مني به حلفاؤها في المنطقة ومحاولة وضع شروط للتفاوض مع أميركا، لا تغلق الباب أمام الأوروبيين، وتمضي بتعزيز علاقاتها مع دول الجوار، وكان لافتا في أكتوبر/ تشرين الأول اجتماع وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي مع وزير خارجية إيران في الدوحة، وتوسيع التعاون مع روسيا والصين ومنظمات باتت إيران عضواً فيها، أهمها بريكس وشانغهاي وأكو .. يقول أمين سر المجلس الأعلى للأمن القومي علي أكبر أحمديان، في تصريح لافت أخيراً: “ليس هناك طريق واحد فقط، فللتفاوض مكانه، ويمكن التفاوض حتى مع الكفار، على أساس المقاومة، كما يمكننا القتال… هناك محاولات لمحو مفهوم المقاومة، وتصوير الأمر وكأن هناك حرباً مستمرّة منذ 45 عاماً بين إيران وإسرائيل… الثورة الإسلامية في إيران قرّرت إشعال جبهة المقاومة ضد إسرائيل وتوسيعها، وهذا ما تحقق خلال الـ45 سنة الماضية. لم يكن الهدف المباشر خلال هذه الفترة إسقاط إسرائيل عسكريّاً، بل إنشاء مقاومة مستمرّة ضدها”.

تغيّرت إيران طوال أكثر من أربعة عقود على عمر جمهوريتها الإسلامية، لكنها حافظت على معادلة “البراغماتية السياسية والثوابت الإيديولوجية والأدوات الثورية”… مجتمع اليوم في إيران ليس مجتمع الأمس، ونظام اليوم ليس نظام الأمس.. السنوات القليلة المقبلة تحمل لإيران الكثير ومعها للمنطقة والعالم.

تفكّر آرزو، وهي ترتشف آخر ما تبقى في فنجان اللاتيه الذي طلبته، بمستقبلها، مع ارتفاع معدلات البطالة وسفر كثيرين من أصدقائها وصديقاتها إلى خارج البلاد، ويفكّر النظام، في الوقت نفسه، عبر حكومات تعاقبت في تحسين الأوضاع، تتقاطع الآمال، لكن التطبيق شيء آخر.

التعليقات معطلة.