بقلم : زياد حافظ
المتابع الظرفي لأحداث كتالونيا يخرج بانطباعات متضاربة. فمن جهة هناك تعاطف مع مبدأ حق تقرير المصير خاصة أنّ الشعب الكتالوني لم يسلّم عبر التاريخ باندماجه في وحدة جغرافية أكبر نعرفها اليوم كإسبانيا. من جهة أخرى هناك تساؤلات حول توقيت الاستفتاء ثم الإعلان عن الاستقلال، كما هناك علامات استفهام حول مواقف دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
لكن هناك أبعاداً متعدّدة لأحداث كتالونيا، بغضّ النظر لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في المستقبل القريب أو المتوسط أو البعيد. هذه الأبعاد تتعلّق بطبيعة الحال بإسبانيا ككيان سياسي وعضو في الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، كما أنها تتعلّق بمستقبل الاتحاد الأوروبي، فيما لو تكرّرت الحالات الانفصالية في عدد من الدول الأوروبية، وما يمكن أن يؤثّر على تماسك الحلف الأطلسي في مواجهة الشرق الذي يعتبر الأخير خطراً وجودياً عليه.
وما يحصل في كتالونيا يشبه ما حدث في إقليم كردستان. فدول الجوار غير موافقة على استقلال الإقليم والاتحاد الأوروبي غير مؤيّد على الأقلّ حتى الآن لاستقلال كتالونيا رغم تصريح الأخير بالانضمام إلى الاتحاد. من جهة أخرى هناك تساؤلات حول مصداقية الاستفتاء الذي حصل في كتالونيا شبيهة بالتساؤلات حول استفتاء الإقليم. فنسبة الاقتراع في الاستفتاء في كتالونيا كانت متدنّية نسبياً، حيث لم تتجاوز 47 في المئة، أيّ أنّ الامتناع عن المشاركة في الاستفتاء يشير إلى أنّ هناك أكثرية غير مقتنعة أو غير مكترثة بالدعوة إلى الانفصال والاستقلال. أما بالنسبة لإقليم كردستان فقد تبيّن أنّ القوى السياسية لم تكن على رأي واحد بالنسبة للدعوة إلى الاستقلال ما أدّى إلى تراجع كبير لمواقف قيادة الإقليم والخروج من كركوك الغنية بالآبار النفطية ما شكّل ضربة قاضية حول جدوى الاستمرار بالمغامرة الانفصالية.
أما في كتالونيا فالدعوة إلى الانفصال تثير تساؤلات. صحيح أنّ هناك مطالبة مزمنة من قبل قوى وازنة في كتالونيا للاستقلال، لكن هناك دلائل أنّ القيادة الداعية للاستقلال وقعت في الخطأ نفسه التي وقعت فيه قيادة الإقليم، أيّ سوء التقدير لموازين القوة. فمن جهة لم تأخذ تلك القيادة بعين الاعتبار مواقف دول الجوار والقوى الدولية. كما أنّها بالغت بقدراتها الاقتصادية على الاستمرار، حيث الاقتصاد الكتالوني يشكّل ما يوازي 20 في المئة من الناتج الداخلي الإسباني. فالمؤسسات العاملة في كتالونيا مزدهرة ما أدّى إلى شعور بفائض القوة عند القيادات الانفصالية في إمكانية ابتزاز الحكومة المركزية. والمعلومات التي بدأت تظهر تفيد بأنّ مؤسسات اقتصادية قرّرت الخروج من كتالونيا.
لكن ما يهمّنا هنا وبغضّ النظر عن الأسباب والظروف التي أدّت إلى نشأة تلك الأزمة هو التفكّر حول الحركات العميقة التي تدفع إلى قرارات قد تكون عبثية ومدمّرة. في رأينا، فإنّ الأزمة الكتالونية دليل على وجود أزمة عميقة في البنية السياسية الغربية والتوجّه الاقتصادي لقيادات دول الغرب إضافة إلى رداءة نوعية تلك القيادات وفسادها، وإلى بروز ثقافة نخبوية غير متجانسة مع تطلّعات الشعوب. فعلى الصعيد السياسي، هناك فجوة متفاقمة بين القيادات والنخب والجماهير شبيهة بما يحصل في الوطن العربي. لكن المفارقة أنّ القيادات والنخب في الوطن العربي معظمها فاقدة لشرعية شعبية بل ناتجة عن شرعية أوجدها الاستعمار القديم والجديد، بينما القيادات في الغرب كانت في البداية ناتجة عن شرعية شعبية ولّدتها أنظمة سياسية ادّعت أنها ديمقراطية. لن نسترسل في تفاصيل الأنظمة السياسية إذا ما كانت ديمقراطية حقيقية أو إذا ما تمّ خطف البرنامج السياسي من قبل القوى الضاغطة صاحبة مصالح خاصة، وليست بالضرورة متطابقة مع المصلحة العامة، فإنّ ما يهمّنا في هذه المداخلة إبراز بعض الظواهر اللافتة.
أولى هذه الظواهر هو تبنّي نموذج اقتصادي طابعه نيو ليبرالي يعتمد على الرأس المال المالي وإنتاج الثروة الافتراضية عبر المضاربات المالية التي تولّد الريع بدلاً من قيمة مضافة. كما أنّ الفائض ليس فائضاً حقيقياً بل هو فائض افتراضي. وهذا النموذج اعتمد المؤسسات المالية وقطاع الخدمات بدلاً من القطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة. هذا لا يعني الإهمال لذينك القطاعين، بل الأفضلية تذهب إلى القطاعات المالية بمعنى أنّ التشريعات التي تقوم بها القيادات السياسية هي لخدمة الرأس المال المالي والأسواق المالية وإنْ كان على حساب القطاع الإنتاجي. المؤشر الفعلي لـ «صحّة» الاقتصاد الوطني هو واقع الأسواق المالية وليس الإنتاج الفعلي الذي أصبح منفصماً عن واقع السوق المالي. هذا التوجّه أوجد سياسات، ومن ورائها ثقافات، تتجاهل الحدود بين الدول والمجتمعات وتهدف إلى فرض نمط واحد على سلوك الشعوب. فالأخيرة عليها أن تتحوّل من شعوب إلى مستهلكين لا رأي لهم غير الاستهلاك، وفقاً للتوجّهات التي تسوّقها القيادات السياسية.
نتيجة لذلك نشأت ثقافة تتجاهل مطالب الشعوب بشكل عام، كما تجاهلت شعور هذه الشعوب خاصة في ما يتعلّق بالهويات الفرعية أو حتى الوطنية. فالدول الغربية ليست دولاً «صافية» الأعراق بل مركّبة. هذا التركيب حصل عبر تراكمات التاريخ الذي لم يلغها، كما اعتقد البعض. غير أنّ اليوم هناك مَن يريد إلغاء حتى الهويات الوطنية الجامعة. فالرئيس الفرنسي ماكرون يتحدّث بصراحة عن أولوية الهوية الأوروبية على حساب الهوية الفرنسية. ورئيس وزراء إسبانيا ماريانو راخوي اعتبر أنه لا يجوز تجاوز تعليمات الاتحاد الأوروبي. العولمة أصبحت عقيدة عند القيادات النيوليبرالية. أضف إلى ذلك موجة النازحين والمهاجرين من الشرق الأوسط وأفريقيا عزّزت الشعور بالهويات المهدّدة ما ساهم في صعود حركات اليمين المتطرّف.
فالقيادات الكتالونية الداعية إلى الانفصال تعتبر أنها «تدفع» من ثرواتها أكثر مما يجب لحساب المناطق الأقلّ ثراءً. نرى الشعور نفسه في مناطق إيطاليا الشمالية التي تعتبر جنوب إيطاليا عبئاً عليها، وبالتالي تطالب بالانفصال. فعلى ما يبدو فإنّ الدعوات الانفصالية في الغرب ليست مرتبطة بالضرورة بشعور «قومي» أو الحفاظ على هوية مهدّدة بالطمس، بل لأسباب أنانية اقتصادية. فالنظام النيوليبرالي أفرز طبقات تشعر بأنها غير ملزمة بتحمّل أعباء شرائح مجتمعية أقلّ ثراءً منها. كما أنه أفرز شعوراً بفقدان الهوية والإحساس بهدف نبيل يتجاوز الاعتبارات المادية.
ليس هناك ما يدلّ على وعي عند القيادات السياسية بأبعاد المشكلة التي تهدّد تماسك المجتمعات، وبالتالي الاستقرار الذي هو شرط ضرورة للاقتصاد الافتراضي. هناك موجة متصاعدة عند الحكومات الغربية النيوليبرالية في قمع مطالب الطبقات الوسطى والعمّالية. كما أنّ هناك تحرّكاً من قبل هذه الحكومات نحو الإلغاء التدريجي لمكاسب نشأت عن دولة الرعاية والرفاهية للتجانس مع سمات الحالة الأميركية. كلّ ذلك يؤدّي إلى ردود فعل متعدّدة الأشكال والأبعاد، منها الحركات الانفصالية بغضّ النظر عن طبيعتها السياسية أو الاقتصادية.
من تداعيات تلك الدعوات الانفصالية إضعاف الحكومات المركزية وربما هذا هو بيت القصيد. الدولة الإسبانية مثقلة بالديون ونظرة الاتحاد الأوروبي لها سلبية بشكل عام. هذا هو شعور الاتحاد الأوروبي تجاه اليونان والبرتغال وإيطاليا، حيث تمّ وصف تلك المجموعة بمجموعة «بيغز» الحرف الأول لهذه الدول ما يعني «خنازير». صحيح أنّ الاتحاد الأوروبي لم يدعم الانفصال على الأقلّ لفظياً وتضامن مع الحكومة المركزية الإسبانية. لكن في المقابل لن تخرج الحكومة المركزية قوية من تلك المجابهة مع مقاطعة كتالونيا وإنْ انتصرت عليها في المدى القريب. فضعف الحكومة المركزية سيمكّن الاتحاد الأوروبي من فرض المزيد من القيود على إسبانيا لجهة المزيد من القرارات والتشريعات التي تدعم المؤسسات والشركات المعولمة وعلى حساب قطاع العمّال. القاعدة الفكرية للعولمة هو مكافأة الرأس المال المالي على حساب العمل والعمّال. والتشريعات التي نشهدها في فرنسا وبريطانيا وألمانيا ستؤدّي إلى المزيد من إضعاف الحركة العمّالية في مطالبة حصّتها من الفائض الافتراضي.
يرافق كلّ ذلك عسكرة المجتمعات عبر إعطاء صلاحيات قمعية أوسع لقوى الأمن. فالمواجهات العنيفة بين الشرطة المركزية في إسبانيا والمشاركين في الاستفتاء لم تكن مبرّرة حسب العديد من المراقبين. نشهد مجابهات مماثلة في فرنسا بين السلطة والقطاع العمّالي. هذا يعني أنّ إسبانيا ومعها عدد من الدول الأوروبية دخلت زمن الأزمات البنيوية في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة.