أنطوان الدويهي
في مهبّ انتصار دونالد ترمب ودخوله العاصف إلى «البيت الأبيض»، وبين المواقف والتعليقات التي لا تحصَى المرافقة هذا الحدث التاريخي في الولايات المتحدة والعالم، لفت نظري بصورة خاصة موقفان اثنان: دعوة البابا فرنسيس ترمب لتقبل حشود المهاجرين غير النظاميين واحتضانهم داخل أميركا، وإعلان إيلون ماسك، أكثر من مرّة في الأشهر الماضية، أن «ابنه مات، وقد قتله فيروس ثقافة الـ(وُوْك)»، مشيراً إلى تحوّل أحد أبنائه؛ كزافييه، إلى بنت اسمها جينا. «دونالد ترمب بين البابا فرنسيس وإيلون ماسك»؛ تلك هي المسألة… وهي مسألة الغرب في رؤيته ذاتَه والعالمَ، وفي حاضره ومستقبله.
وهي، بصورة أخرى، مسألتنا نحن أيضاً؛ إذ إن عودة ترمب هي عودة الغرب بقوة إلى منطقتنا. مع أنه قبل وصول ترمب إلى سدّة الرئاسة، وعلى مدى شهور طوال من حرب الشرق الأوسط التي أشعلها «طوفان الأقصى»، أكّد مجرى الأحداث وطبيعتها ووجهتها، أن الغرب، في عهدة بايدن، لا يزال، وإلى حدّ بعيد، القوة العالمية الأكبر حضوراً وفاعلية في هذه المنطقة. وقد أظهرت الحرب، في ما أظهرته، أن دعوة المحور الإيراني إلى التوجّه شرقاً لم تكن تستند إلى معطيات موثوقة؛ إذ غابت الصين وروسيا وكوريا الشمالية… وغيرها غياباً مدهشاً عن مسرح الأحداث.
…هكذا؛ على الرغم من انحسار الاستعمار الغربي عن أنحاء المعمورة كافة، ومن أن الحربين العالميتين؛ الأولى والثانية، كانتا أساساً حربين أهليتين أوروبيتين، أنهكتا «القارّة القديمة»، وعلى الرغم من صعود الصين وصعود الهند البارزَين، ونهوض قوى إقليمية مؤثرة في آسيا وأميركا اللاتينية، في عالم متعدد الأقطاب، فإنه ما زال للغرب تأثيره المصيري الأكبر… هكذا يستمر، بصورة أو بأخرى، حضور أوروبا، ثم أميركا، ودورهما الحاسم في مجريات العالم، على مدى «الأزمنة الحديثة» منذ انطلاق النهضة الأوروبية في أواسط القرن الخامس عشر حتى اليوم.
توقّع كثير من المؤرّخين وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، لا سيّما في آخر ربع قرن، أن الغرب دخل مرحلة انحداره المحتوم، مثله مثل أي حضارة أو إمبراطورية عرفها التاريخ البشري. فالمجتمعات الغربية تعاني من الضمور السكاني، في جمودٍ وتراجع ديموغرافي لا علاج لهما. وهي تعيش نمط إنتاج واستهلاك في تصاعد دون حدود، مستنفداً المواد الأولية وملوثاً مكوّنات الطبيعة. وتواجه أزمة قِيَمِيّة، تطغى فيها المادة على كل شيء، ويتحوّل فيها الفرد إلهَ ذاته. كما أن المجتمعات الغربية حائرة في رؤيتها لنفسها ولهويتها، وفي نظرتها إلى الآخر، ومهمتها في العالم المعاصر، وأنظمتها الديمقراطية تعاني من «لا استقرار القيادة»، وتغيّر النخب الحاكمة، وأعمال الاختراق والتأثير، وسط عالم تحكمه الديكتاتوريات من كل صوب.
مع ذلك، تبقى الديمقراطيات الغربية مساحة الحريات الفردية الأخيرة في العالم. وهي تبدي حيوية لافتة في إدارة ذاتها وفي تخطي مشكلاتها. والغرب؛ الأوروبي والأميركي، هو الوجهة الوحيدة المرتجاة، التي تتوق إليها، وتحلم بالوصول إليها بمختلف الوسائل، مئات ملايين البشر في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
لا شك في أن المجتمعات الغربية اليوم؛ في أميركا كما في أوروبا، منقسمة عمودياً على ذاتها. وإذا كان مِن تعبير يختصر حال الانقسام كثيرة الوجوه والأبعاد، فهو التالي: الصراع بين الهوية الوطنية والهوية المعولمة. وحين نعود إلى «ترمب بين البابا فرنسيس وإيلون ماسك»، نجد أن الرئيسَ الأميركي، الرافعَ لواء الهوية الوطنية، قد تعهد منذ اليوم الأول بإعلان حالة الطوارئ على الحدود الجنوبية، وتعزيز الأسوار الفاصلة، وطرد ملايين المهاجرين غير النظاميين، وإلغاء حق الجنسية بمجرد الولادة في أرض أميركا. وأيضاً أكّد تكريس العائلة ورفض التحوّل الجنسي. وفي ضوء شعار «أميركا أوّلاً» لم يتردد في اتخاذ قرارين خطرين: الانسحاب من «منظمة الصحة العالمية»، ومن «معاهدة باريس للمناخ»، والآتي ربما أعظم.
هل هو انتصار الهوية الوطنية على الهوية المعولمة في الغرب؟ عودة ترمب وصعود اليمين القومي المتشدد في أوروبا ينبئان بذلك. لكن ما زال الصراع على أشده في المجتمعات الأوروبية. والانتصار الجمهوري، على الرغم من أهميته وشموله، ليس انتصاراً ساحقاً. فالمعسكر الآخر؛ «معسكر أوباما» والهوية المعولمة، من اليسار الأميركي إلى «الحركة الـ(وُوْكِيَّة) الراديكالية»، ما زال فاعلاً. ولا أحد يدري ماذا سيحدث بعد 4 سنوات. ولا ننسى لعبة القدر، وتلك الرصاصة؛ التي لو حادت قيد شعرة على وجه ترمب، لغيّرت وجه التاريخ.