ابراهيم العريس
لو لم يعلن جورجيو دي كيريكو أن تلك اللوحة التي رسمها في العام 1914 تمثل نوعاً من «بورتريه شخصي» للشاعر والناقد الأدبي غيّوم بودلير، الذي كان ذا سطوة كبيرة في الساحة الثقافية الفرنسية في ذلك الحين، ما كان من شأن أحد، ولا حتى أبولينير نفسه أن يخمن أن الشخص المرسوم في اللوحة هو ذلك الشاعر الكبير. ودي كيريكو نفسه حتى حين أعلن أن اللوحة «تمثل» أبولينير، لم يزعم وجود شبه حقيقي بينها وبين هذا الأخير. والحقيقة هي أن تلك اللوحة التي رُسمت خلال الربع الأخير من القرن العشرين، كان من شأن مشاهديها أن يعتقدوا أنها تمثل واحداً من نجوم السينما أو الروك الذين لم يكن لهم وجود في تلك الأزمنة، بل كان يمكن لمن يشاء أن يعتبرها نسخة محسّنة من بورتريه «بوب» لآندي وارهول. ومع هذا، تمكن دي كيريكو على مرّ السنين من أن يفرض «ملامح» لأبولينير باتت راسخة. ومع هذا ثمة نوع من الخدعة، إنما غير المقصودة طبعاً، في الحكاية كلها. لأن الواقع يفيدنا بأن أبولينير في اللوحة ليس هو ذلك الفتى الأشقر الذي يبدو كتمثال حجري وعلى وجهه نظارات شمس، وإنما هو الآخر، ذلك الذي يبدو على شكل ظل في وسط النصف الأعلى من اللوحة على خلفية لون أخضر، وقد رسمت على وجهه دائرة بيضاء تجعله يبدو وكأنه من تلك الصور التي تشكل هدفاً للعبة رمي الأسهم في المعارض الريفية. أما التمثال الذي يشغل المقدمة فهو يشير في الواقع الى ذلك العرّاف الأعمى الذي كان من شخصيات الميتولوجيا القديمة. وبالتالي، فإن السمكة والصدفة المحفورتين على مسطح جانبي في الجانب الأيمن من اللوحة وكأنهما أحفورتان، ترمزان، من دون أدنى ريب الى الشعر بوصفه فناً يتمتع في الوقت نفسه بقوة تخمين وتنبؤ كما بقوة ترياقية.
> من هنا، اعتبرت اللوحة نوعاً من التكريم لأبولينير أكثر مما اعتبرت «بورتريه له». ففي نهاية الأمر، لم يكن دي كيريكو، الذي ساهم أبولينير في رعايته وتقديمه للمجتمع الفني الباريسي منذ وصوله الى هناك، لم يكن ليهتم برسم أي بورتريه شخصي لأحد سواه، إذ نعرف انه رسم الكثير من البورتريهات الذاتية التي أتت لديه واقعية في أغلب الأحيان. أما بالنسبة الى الآخرين، فإنه كان يرسم مشاهد «تكرمهم»، واضعاً إياهم وسط عدد من العناصر التي تحيل الى فكرهم وعملهم أكثر كثيراً مما تحيل الى سماتهم الخارجية. ومن هنا كانت لوحته هذه عن «بودلير» عملاً رمزياً ميتافيزيقياً سرعان ما تبناه السورياليون لاحقاً، معتبرينه من أهم إنجازات الفن السوريالي، وهو نفس ما فعله أبولينير على أيّ حال، هو الذي أمعنت هذه اللوحة – البالغ عرضها خمسة وستين سم وارتفاعها أكثر قليلاً من واحد وثمانين سم، والمعلقة اليوم في المتحف الوطني للفن الحديث في مركز جورج بومبيدو وسط العاصمة الفرنسية، في تفرغه تماماً لرعاية دي كيريكو معتبراً إياه في كتاباته مبتدع ما سمّاه بنفسه «الفن الميتافيزيقي» جاعلاً إياه مقبولاً من السورياليين رغم ما يمكن تصوّره من عدم اتفاقهم مع تلك التسمية التي سيعودون الى تبنيها على أي حال!
> إلى هذا، لم يكن من قبيل الصدفة، بالطبع، أن يُعتبر جورجيو دي كيريكو، الأكثر جرمانية والأقل إيطالية بين كبار الرسامين الإيطاليين في القرن العشرين. فهذا الرسام الذي ولد العام 1888 في مدينو نولو في منطقة تيساليا لوالد كان يعمل مهندساً في شركة إيطالية تتولى بناء خط السكة الحديد هناك، قضى طفولته وصباه في ميونيخ بعد موت أبيه، إذ إن أمه بدلاً من ان تتوجه الى ايطاليا بعد موت الأب اصطحبت ولديها جيورجيو والبرتو (الذي أصبح لاحقاً واحداً من كبار الروائيين الايطاليين، سيشتهر كذلك كناقد وباحث في الموسيقى، تحت اسم مستعار هو ألبرتو سافينيو) الى العاصمة البافارية حيث استكملا تعليمهما. وهناك في ميونيخ، حيث التحق جورجيو بأكاديمية الفنون الجميلة قيّض له وسط صخب الحياة الفنية الألمانية في ذلك الحين، ان يتشبع بكل الأساليب الرمزية والتعبيرية التي طبعت أعمال كبار الرسامين في ذلك الحين من فرانز ستوك، الى ماكس كلنغر مروراً بآرنولد بوكلن، ما يعني ان دي كيريكو امتزج لديه الفن بالتعبيرات الأسطورية والسيكولوجية التي كانت تسود الفن الألماني في تلك المرحلة، والتي كانت تتواكب مع اكتشافات فرويد في ميادين التحليل النفسي.
> وسوف يظل هذا كله يطبع أعمال دي كيريكو، رغم ان حدة الشمس وقوة الألوان في لوحاته ستظلان على الدوام أقوى لديه منها لدى بقية الألمان الذين تأثر بهم أو تزامنت نشأتهم مع نشأته. فهو كان ايطالياً على أي حال، في مكان ما من فؤاده ومن لاوعيه الروحي، وسيظل مطبوعاً الى الأبد بذلك البعد الايطالي الأصيل والعميق في شخصيته. وهذا بالطبع ما سيجعل الايطاليين، رغم غرابة أعماله عن عوالمهم، يفردون له مكانة أساسية ويعتبرونه أكبر رسام ايطالي في القرن العشرين.
> من ناحيته، وقبل ان يواصل المسيرة الطبيعية لأي فنان أوروبي في ذلك الحين ويتوجه الى فرنسا، أحس دي كيريكو بهزة عنيفة في كيانه منذ اكتشف للمرة الأولى كتابات نيتشه، فكان ان استشعر، وعبّر لاحقاً في لوحاته عن انفعالات استثنائية وجدت أشكالها في البيئة المدينية لمدينة تورينو التي عاش فيها ردحاً من شبابه وحقق فيها أولى لوحاته المعروفة. إذاً، في تورينو وفي 1910 كانت بداية دي كيريكو الحقيقية المازجة بين كوابيس التعبيرية والألوان الايطالية والدلالات الفلسفية المستقاة من نيتشه. ولكن في العام التالي 1911 توجه دي كيريكو الى باريس حيث تعرف، أول ما تعرف، بماكس جاكوب وبيكاسو بخاصة بالشاعر والناقد الفني غيّوم أبولينير، وبدأت أصالة لوحاته وغرابتها تلفت اليه الأنظار. وهناك في العاصمة الفرنسية، راح دي كيريكو يحقق تلك اللوحات الغامضة التي كانت، الى حد ما، جزءاً من مكونات الحركة السوريالية في باريس ذلك الحين. ونظر النقاد الى أعماله باعتبارها أعمالاً منطبعة بطابع ميتافيزيقي غير خفي، بخاصة ان الرسام عبّر فيها عن كآبة تطغى على أعماق روحه وعن هواجسه الذهنية وعن إشراقاته الداخلية في آن معاً. وحتى 1914 كانت لوحات دي كيريكو على أي حال تعبر عن تلك الإشراقات باللجوء الى رسم الساحات الايطالية والأصنام البشرية والأبراج المنتصبة تحت لهيب شمس ساخنة. وفي جميع الأحوال فإن بداية الحديث الجدي عن تيار الرسم الميتافيزيقي لم تبدأ الا بعد ان عاد دي كيريكو الى ايطاليا فالتقى هناك بشقيقه البيرتو سافينيو وقد أضحى كاتباً كبيراً، كما التقى بالرسام كارلو لارا الذي كان قد ترك النزعة «المستقبلية» وبدأ يخوض رسماً يواكب بين الميتافيزيقية والسوريالية المبكرة. وكان ذلك اللقاء حاسماً في عمل دي كيريكو حيث بدأت لديه مرحلة اللوحات الداخلية الميتافيزيقية، ذات الفن الروحاني الملفت، والتي كان من الواضح ان مسعى دي كيريكو الأساسي فيها، انما يتوخى نوعاً من الوصول الى سلام داخلي وصلح مع الذات.
> غير ان ذلك كله سرعان ما انتهى مع إطلالة العشرينات، حين بدأ الاتصال الجدي بينه وبين الرسامين السورياليين، فأضحى واحداً منهم. ولكن السؤال الذي ظل قائماً في ذلك الحين هو: حين أضحى دي كيريكو سوريالياً هل كان لديه، بعد، ما يقوله؟ أم انه، في الحقيقة، كان قد خلف وراءه مراحله الكبرى كرسام متفرد وأصيل من رسامي القرن العشرين؟ مهما يكن، فإن رحلته مع السورياليين لن تطول. ففي 1926 كانت القطيعة معهم، لكنهم ظلوا مع ذلك يكنون له احتراماً كبيراً، بخاصة في ما يتعلق بأعماله الكبيرة التي سبقت انضمامه اليهم!
> في 1929 نشر دي كيريكو رواية وحيدة عنوانها Hebdomeros كانت نوعاً من التعليق على تجربته التصويرية والعقلية، ولقد استقبلها السورياليون بوصفها شهادة حية لواحد من كبار فناني القرن العشرين. بعد ذلك عاش دي كيريكو طويلاً، فهو لم يرحل عن عالمنا الا في العام 1978، لكنه لم يعش طوال أكثر من نصف قرن من حياته الا على مجد سنواته السابقة، ولم ينتج طوال عقود عدة ما يجعل له مكانة غير المكانة التي حققها في بداية حياته الفنية.