{أبو عگال وأبو عمامة طردوا الافندي واستباحوا الدولة المدنية في العراق ولم يتبقَّ لها أثر}

1

حسن فليح /محلل سياسي

لطالما كان العراق، بميراثه التاريخي والثقافي العريق، يحاول التأسيس لدولة مدنية حديثة ترتكز على مبادئ المواطنة والقانون. ومع ذلك، جاءت قوى مختلفة، أبرزها ما نطلق عليه هنا رمزيًا “أبو عگال” (شيخ العشيرة) و”أبو عمامة” (رجل الدين)، لتعوق هذا المسار وتسرق حلم الدولة المدنية. من خلال التواطؤ والتجناس بين شيخ العشيرة ورجل الدين، تم تقويض أسس الدولة المدنية، وتحوّلت البلاد إلى ساحة نفوذ تخضع لمصالحهم الضيقة.

أولاً: “أبو عگال” ودور العشائرية في العراق

أبو عگال، الذي يمثل زعيم العشيرة، يعكس قوة النظام القبلي التقليدي في العراق. تاريخيًا، لعبت العشائر دورًا مهمًا في المجتمع العراقي، حيث كانت تؤمّن الحماية لأفرادها وتوفر نوعًا من العدالة والنظام الداخلي. ولكن مع دخول الدولة الحديثة، كان من المفترض أن تنحسر سيطرة هذه البنية لصالح مؤسسات الدولة القانونية والإدارية.

رغم ذلك، استمر نفوذ شيوخ العشائر، الذين وجدوا في ضعف الدولة وعدم قدرتها على فرض القانون فرصة لإعادة ترسيخ مكانتهم. أصبح شيخ العشيرة قوة سياسية واجتماعية مؤثرة، يستخدم ثقله في توجيه العملية السياسية وتوزيع المنافع الاقتصادية. وتمكن “أبو عگال” من فرض نفوذه عبر التحالف مع السلطة، وأحيانًا بالضغط على الحكومة للحصول على امتيازات خاصة لعشيرته.

ثانياً: “أبو عمامة” وسيطرة الخطاب الديني

أبو عمامة، رجل الدين، جاء ليكمل الحلقة في فرض سيطرته على المجتمع والدولة. بعد سقوط النظام البعثي في 2003، شهد العراق صعودًا لافتًا لقوى دينية. أصبح رجل الدين مؤثرًا ليس فقط في الشؤون الدينية، بل أيضًا في السياسة وصنع القرار. وتحوّل الخطاب الديني إلى أداة لتحشيد الجماهير والسيطرة على المجتمع، متجاوزًا دوره الروحي ليصبح قوة سياسية تملك تأثيرًا واسعًا.

أبو عمامة استغل هذا النفوذ لفرض أجندته، وبدلاً من الدعوة لدولة مدنية تحترم التعددية، دفع باتجاه نموذج ديني للدولة، يُخضِع المؤسسات لقواعد دينية ويُضعف من مبدأ المساواة بين المواطنين.

ثالثاً: التحالف بين “أبو عگال” و”أبو عمامة”

رغم الاختلاف الظاهري بين “أبو عگال” و”أبو عمامة” في الشكل والخطاب، إلا أنهما تجانسًا في مصالحهما وأساليبهما في السيطرة. ففي غياب سلطة دولة قوية قادرة على فرض القانون والنظام، وجد الشيخ ورجل الدين أرضية مشتركة للتحالف. كل منهما استغل الآخر لتقوية نفوذه؛ فشيخ العشيرة استفاد من دعم رجل الدين لفرض سطوته، ورجل الدين وجد في البنية العشائرية قاعدة دعم شعبية واجتماعية.

هذا التحالف أدى إلى تهميش دور الدولة المدنية. فبينما كان من المفترض أن تكون الدولة هي المرجعية العليا للمواطنين، أصبحت السلطة الحقيقية بيد الشيخ ورجل الدين، اللذين تحايلوا على مؤسسات الدولة واستخدموها لتحقيق مصالحهم.

رابعاً: تأثير هذا التحالف على الدولة المدنية

نتيجة لهذا التحالف، أصبحت الدولة المدنية في العراق مجرد حلم بعيد المنال. لقد هيمن الخطاب القبلي والديني على المشهد، وأُضعفت مؤسسات الدولة لصالح الولاءات العشائرية والدينية. وتحوّلت المناصب الحكومية إلى غنائم تُوزع بناءً على المحسوبية والعلاقات، بدلاً من الكفاءة والمواطنة.

هذا الوضع خلق نظامًا مزدوجًا: نظام الدولة الرسمي، ونظامًا آخر غير رسمي يقوده “أبو عگال” و”أبو عمامة”. أصبح المواطن العادي يعيش تحت وطأة قانونين، قانون الدولة وقانون العشيرة والدين، وغالبًا ما يجد نفسه مضطرًا للرضوخ للأخير بسبب قوته وتأثيره المباشر على حياته اليومية.

خامساً: كيفية استعادة الدولة المدنية

استعادة الدولة المدنية في العراق تتطلب مواجهة هذا التحالف غير المقدس بين الشيخ ورجل الدين. يجب العمل على تعزيز مؤسسات الدولة وإعادة الثقة بها، وتطبيق القانون على الجميع بدون استثناء. كما يتطلب الأمر توعية المجتمع بأهمية الدولة المدنية ودورها في تحقيق المساواة والعدالة.

من الضروري أيضًا تقليل النفوذ المفرط للعشائر والمؤسسات الدينية في الشؤون السياسية. فبينما يجب احترام دورها التقليدي والديني، يجب أن يُحصر هذا الدور في إطار المجتمع المدني، دون أن يمتد إلى توجيه السياسة واحتكار السلطة.

“أبو عگال” و”أبو عمامة” شكّلا تحالفًا أدى إلى سرقة الدولة المدنية في العراق، مما جعل بناء مجتمع حديث ومتطور أمرًا في غاية الصعوبة. لكن هذا الوضع ليس قدرًا محتومًا. بإمكان الشعب العراقي العمل على استعادة الدولة المدنية من خلال تعزيز المؤسسات القانونية والإدارية، وإعادة بناء الثقة في الدولة كمرجعية وحيدة للمواطنين. بذلك، يمكن أن يتحرر العراق من قبضة القبيلة والدين، ويتجه نحو مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا.

التعليقات معطلة.