أحرار العالم بحاجة إلى مانيفيستو جديد!

3

مجازية التعبير لا تحجب حقيقة وجود من ينطبق عليهم الوصف، فهم خليط من أفراد وجماعات ومنظمات وأحزاب وجمعيات، متعددي المشارب ومن بلدان مختلفة حول العالم يحركهم إيمانهم ووعيهم بمخاطر ما ينتاب العالم من نوبات صرع بسبب سيادة منطق القوة الغاشمة على منطق العدل والقانون والسلام بين بني البشر، وبينهم وبين البيئة، يحز بنفوسهم كل أشكال التمييز، يؤمنون بأن الحرية هي حق طبيعي للافراد والشعوب، وإنها تحتم شكل التضامن الانساني العابر للحدود، لتجذير مبدأ المسؤولية المشتركة، فالحرية لا تعني قطعا التقوقع بشرنقة الفردية الانانية، التي تعميها ثقافة الانهماك بالتملك، وشراهة الاستهلاك عن رؤية المصير الحالك للانسانية الذي سيكون تحصيل حاصل لمسيرة الهيمنة الاستغلالية للراسمالية المتوحشة، التي ترتدي لبوس التقدم والازدهار، وهي تفترس الحاضر والمستقبل لمصلحة اقلية الاقلية على حساب مصائر الاكثرية الشاملة، وتخادع بتصوير مناخ الانفلات العبثي الغارق في فردانيته على أنه الحرية المطلقة، معتبرة نظامها نهاية للتاريخ، وإنسانها هو الانسان الاخير!

البيان الشيوعي

لنا في مانيفيستو كارل ماركس وفريدريك أنجلز، 1848، مثالا جديرا بالاهتمام، فهو منشور لبعث الأمل بالمستقبل، وبنفس عابر للحدود المصطنعة بين البشر، وقد كتب بتكليف من عصبة الشيوعيين الاممية، ليكون برنامجا ثوريا شاملا، يتجاوز فلسفة التفسير بالارتقاء النظري والتطبيقي نحو فلسفة التغيير، بتوجهه المباشر نحو عمال العالم وطلائعهم، وكل النخب المؤمنة بقضيتهم، وخاصة المثقفين الثوريين، لمقارعة الاستغلال الرأسمالي العالمي بامبرياليته وعولمته الاستعبادية، كان شعاره مباشرا يعكس النظرة الثاقبة نحو الهدف، فالعمال بحسب ماركس وأنجلز حفاري قبور الرأسمالية، وهذه المهمة التاريخية هي حمل ثوري جبار يستلزم وعي طبقي ذاتي فعال وطليعة ثورية متمرسة في اجتراح استراتيجيات التنظيم وتكتيكاته، لاسيما وان الصراع مع الراسمالية ميدان مفتوح على مصراعيه لكل الاحتمالات، فالرأسمالية لا تستسلم بسهولة، وهي تملك كل وسائل القمع والتضليل، والدولة ظهيرها وسندها، يا عمال العالم اتحدوا -ليس لديكم ما تخسرونه سوى قيودكم-، إنه نضال، وعراك ومعارك، وأكد البيان على كون حزب البروليتاريا هو هيئة اركانها التنظيمية والسياسية والفكرية، والاتحادات النقابية هي ميدان نضالها المهني.

لقد هز الحراك النضالي للتنظيمات العمالية الثورية عواصم الصناعات الثقيلة في أوروبا وكانت المكاسب تنتزع انتزاعا، وجاء البيان الشيوعي ليتوج الحراك بنظرية تعرف نفسها بنفسها، فأي حركة ثورية بدون نظرية ثورية تصبح حركة عمياء، وأصبح شبح الشيوعية الذي طارد أوروبا مجسدا ومجسما في البيان الشيوعي الذي أعلن عن نفسه، روح وفكر وحراك يختزن التبشير بعالم جديد يعيش البشر فيه دون سوسة الملكية الخاصة لينتهي صراع الانسان مع الانسان وليتفرغ تماما لتهذيب العلاقة التصارعية مع الطبيعة الى علاقات امتدادية توافقية في رحلة البحث عن المعرفة الكلية، لينطلق بحريته المطلقة من خلال اليقين بإنسانيته التي يطلق عنانها سقوط قوانين السوق ليصبح العمل ضرورة انسانية لا اغتراب فيه، على قاعدة من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته.

نحو دفع العجلة وليس إعادة لاكتشافها

منذ تلك الانطلاقة حصلت متغيرات عظيمة وشاملة أثرت على كل مسيرة التاريخ البشري، وتتطلب إعادة تقييم للكثير من المنطلقات والمرتكزات في مواجهة الراسمالية المعاصرة وتمددها النوعي وهذا كله يستدعي مراجعة لأشكال ومضامين الخطاب التصارعي مع الاستبداد الإجرامي للرأسمالية المتغولة، التي توفرت لها أدوات جديدة مع تواتر القفزات العلمية والتكنولوجية، للمغامرة ليس فقط بحياة مئات الملايين من خلال الحروب الكونية وتشتيت انتباه شعوب العالم، وإفقارها، بل بالحياة كلها على كوكب الأرض، وأخذت تفكر بمد نشاطها التنافسي الشرير الى الكواكب الاخرى، وراحت تستثمر في التصنيع الحيوي بما يوفر لها إمكانية استنساخ أشباه للبشر مبرمجين بما يخدم هيمنتها، هذا علاوة على هندسة شمولية لإعادة إنتاج المجتمعات الحديثة من خلال نظم السيطرة عن بعد، وبذات أدوات الاستخدام الشخصي الشائع تداولها حديثا وعلى نطاق عالمي، والتركيز على غسل أدمغة الأجيال الجديدة بكل البرمجيات التي تمجد الانصراف للذات والملذات والاستهلاك، وجعل التعليم وخاصة العلوم الاجتماعية ومناهجها متماهيا وبتسلل منهجي مع مسيرتها التي تقدس الفردية وملكيتها ونزع اي قيمة اخلاقية عنها، فالكل طليق بالتجريب الذاتي وبنفس القدر هو تحت الكونترول، والكل أسير للتجربة الشمولية التي تخوضها الليبرالية الحاكمة لتخليد حكمها المنبثق من شرعية السوق المتحكمة بكل الشرائع والشرعيات الاخرى بما فيها الانتخابية.

زاد سقوط التجربة السوفيتية من غرور الرأسمالية المعاصرة معلنة بطاووسية وقحة خلودها الذي لا يضاهيه خلود، وكأنها قدر لا مفر منه، كما يذهب، فرانسيس فوكوياما، متناسية ان التناقضات الجوهرية بين الانتاج الاجتماعي والملكية الفردية، وبين غزارة الثروة المنتجة والتوزيع غير العادل لها، وبين الانساق الكيانية للراسمالية المتطورة التي استنفذت تقدميتها وبين الكيانات النامية التي لا يمكن ان تسلك نفس المسار، وذلك بسبب ذات قوانين السوق السائدة التي ستعيد انتاج الفجوة القائمة بين الغرب والشرق، والشمال والجنوب، وان تلك الفجوة، لا يمكن ردمها بالهجرة او بحقن الانعاش، وحتما ستكون التبعية هي السائدة.

سقوط اللينينية والاستالينية، وما حملته من محاولات ارادوية، بتنظير شط عن الماركسية وخطابها الكوني على الرغم من مركزيته الاوروبية، لا يعني خلودا للراسمالية المعاصرة وليبراليتها الجديدة، التي ترفع شعار الحرية المطلقة، وهو بالنتيجة عبودية للسوق الحرة وتقديس للملكية الفردية على حساب الانسانية وحريتها الحقيقة التي تروم لميزان العدل في في كل اشكال العلاقات، بين الفرد وذاته والفرد والجماعة والفرد والطبيعة !

خطل الاجتهاد الثوري لا يعني بالضرورة صواب الامر الواقع، نعم لا الامبريالية هي اعلى مراحل الراسمالية، ولا قيامة لنظام اشتراكي حقيقي في بلاد متخلفة راسماليا، لان الماركسية افترضت قيام الثورة الاشتراكية في مراكز ثقل الكيانات الراسمالية الرئيسية، ولا اشتراكية في ظل سيادة الراسمالية كونيا، اما تفاوت التطور بين البلدان الراسمالية فهذا ليس مدعاة للتصيد الثوري الطارئ، ويبدو ان التروتسكية على علاتها، كانت اطول نفساعندما اشترطت استمرار الثورة وتصديرها كعربون للثورة الدائمة عالميا، ومع فداحة الانهيار تبقى التجربة السوفيتية، غنية من كل الوجوه ودرسا عالميا، ساعد العديد من البلدان على التحرر الوطني، صحيح انها حفزت الراسمالية على ابتكار مضادات حيوية ضد الحمى الثورية عالميا، وجعلت اشتراكياتها الديمقراطية تتعاشق مع الليبرالية، إلا انها اثبتت عمليا ان روسيا القيصرية كنظام كان في ذيل الدول الراسمالية المتطورة اصبح بظرف اربعة عقود دولة عظمى تتقاسم مع الغرب النفوذ العالمي، بالرغم من كل الحروب الداخلية والخارجية، الساخنة والباردة.

يا دعاة الحرية اتحدوا

الإنسانية بحاجة الى مانيفيستو جديد، يرسم طريق الخلاص، من الانحباس الاغترابي الذي يغطي كل اركان المعمورة، ويقطع الطريق على الساعين لتصنيم الانسان وتحنيطه، وتحريف مسارات معرفته، وجعل نسله نسخ مزورة، لا تحمل جيناتها إلا ما يبرمجه اصحاب سلطة القوة المهيمنة، وخطابهم المزيف القائل : بأن الكون كله بما فيه وعليه سوق كبير، العرض والطلب، هو قانونه المقدس، الذي سيحرر بالليبرالية المطلقة البشرية من كل قيد ارضي او سماوي، وكأن آلهة السوق تحرس بني البشر فردا فردا وبفردانية مقدسة، وبكل تلقائية ومن دون اي إعتبارات تناقضية او اخلاقية، ففي سوقهم الكبير لا مكان للقيم غير النقدية، معك سنت تساوى سنت، وبكل ذوق ونعومة ومخملية سيخرج المفلسون من جنة السوق الى جحيم القائمة السوداء، اما ديونهم فهي تسترد حتما وبكل الوسائل الممكنة بما فيها وسيلة تاجر البندقية، شايلوك، مع انطونيو، التي يبررها الشرط الجزائي، وامميا كما يفعل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي مع الدول التي لا تتمكن من دفع فوائد قروضها فهي ستكون تلقائيا مطية للشروط الجزائية وإرتهاناتها وبكل سلاسة ومن دون، شوشرة، وبما ان التجارة شطارة فأن منظمة التجارة العالمية بالمرصاد لكل منافس حسود، وحتى تعم الفائدة يكون التسويق شموليا ومتسلسلا ومرفها ومغريا ومبتزا للابتكار الذي يسهل روتين الحياة ويطيل من اعمارالناس ليربي زبائنه وهم في بطون امهاتهم وبكل ابهار يقارب الخيال يجعل من الكمالي حاجي، حتى الذروة التي ينتفي فيها المعنى ويصبح مجرد الاقتناء، لذة، وهدف بحد ذاته، خاصة وانه يستوعب الغرائز ويغذي ما يستنزف التمرد الذاتي بواقع يتمثل الموضوعية والحتمية، سوق لا تبور فيه سلعة، فالاذواق تشيئت وكذلك اصحابها.

التعليقات معطلة.