في خضم الأزمة السورية المستمرة، يبرز أحمد الشرع، المعروف بـ”الجولاني”، كأحد الشخصيات المثيرة للجدل والتي تحمل في طياتها تناقضات سياسية وفكرية معقدة. فعلى الرغم من أنه كان يُعرف في الماضي كزعيم لتنظيم “هيئة تحرير الشام”، الذي ارتبط تاريخياً بالعنف والقتال تحت راية فكر سلفي متشدد، إلا أنه بدأ مؤخراً في تقديم نفسه بصورة جديدة تحاول التملص من هذا الإرث الدموي، عبر تبني خطاب مدني يسعى لإعادة تأهيله سياسياً.
التحول الظاهري: بين التغيير التكتيكي والتحول الجوهري
منذ ظهور أحمد الشرع في الإعلام بربطة عنق وخطاب هادئ، أصبح يتبنى مواقف تتسم بالاعتدال والانفتاح، داعياً إلى الاستقرار وإعادة الإعمار في سوريا. هذا التحول في صورته العامة والتكتيك الذي يتبعه يثير العديد من التساؤلات حول مدى جدية هذا التغيير. هل هو مجرد استراتيجية لتغيير الصورة وكسب الشرعية الدولية والإقليمية، أم أنه تحول حقيقي في الفكر والمواقف؟
التحول التكتيكي .
يرى البعض أن هذا التحول هو في الأساس تكتيك سياسي يهدف إلى تحقيق أهداف قصيرة المدى، مثل الحصول على دعم دولي يسمح له بلعب دور في المرحلة المقبلة من إعادة بناء سوريا. الجولاني يدرك أن التاريخ الدموي المرتبط باسمه لا يعفيه من تبعاته، وأن استمرار العنف والتطرف لم يعد محلاً للقبول في المعادلة السياسية الدولية أو الإقليمية .
أحمد الشرع يبدو واعيًا بالتحديات التي تواجه سوريا، مع التركيز على ضرورة عدم التسرع في تحقيق التحول السياسي لتجنب الأخطاء التي شهدتها التجربة العراقية، مثل المحاصصة والفساد الطائفي .
التحول الفكري .
من جهة أخرى، هناك من يعتقد أن الشرع ربما يكون قد اقتنع تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية بضرورة التخلص من أيديولوجيته السلفية المتشددة، وبذلك يسعى لبناء خطاب مدني يمكنه من إيجاد موطئ قدم في السياسة السورية المستقبلية. هذا التحول قد يكون محاولة لجذب تأييد الأطراف التي طالما رفضت سياسات العنف والتطرف.
التحديات الكبرى: الإرث الدموي ومحدودية القبول الدولي
لا يمكن لأحمد الشرع أن يتجاهل إرثه الإرهابي الذي لازال يؤثر على صورته في الداخل السوري وعلى المستوى الدولي. وفي هذا السياق، يواجه تحديات متعددة على رأسها .
1. الإرث الإرهابي:
إن الجرائم والانتهاكات التي ارتكبها تنظيم “هيئة تحرير الشام” بقيادة الجولاني في سوريا تظل عائقًا رئيسيًا أمام محاولات إعادة تأهيله. فلا يمكن محو هذا الماضي بسهولة، سواء في ذاكرة السوريين أو في حسابات المجتمع الدولي.
2. القبول الدولي والإقليمي:
بالرغم من محاولاته لتحسين صورته، إلا أن المجتمع الدولي ما زال يشك في نواياه. القوى الإقليمية والدولية التي دعمت المعارضة السورية لا ترى في الجولاني شريكاً محتملاً في عملية التسوية السياسية، نظراً للارتباطات السابقة بتنظيمات متشددة وتاريخ من الإرهاب.
3. التناقض مع قواعده الشعبية:
علاوة على ذلك، يواجه الجولاني معارضة من داخل قواعده الشعبية. فجزء من أنصاره، الذين يتبنون الفكر السلفي الجهادي، يعتبرون هذا التحول بمثابة خيانة للمبادئ التي قاموا عليها، مما يهدد استقرار سلطته الداخلية.
التأثير على مستقبل سوريا .
من خلال هذه التحولات، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن لأحمد الشرع أن يقدم مشروعًا وطنيًا حقيقياً؟ إذا تمكن من تحويل خطابه إلى واقع، فقد يكون له دور مؤثر في إعادة تشكيل المشهد السياسي السوري بعد سنوات من الحرب والدمار. وعلى الرغم من إرثه الدموي، قد يتيح هذا التحول له فرصاً جديدة للدخول في مفاوضات مع القوى الإقليمية والدولية المعنية بإعادة إعمار سوريا.
لكن في المقابل، يبقى القلق قائماً: هل يمكن لهذا التحول أن يكون مجرد واجهة لإخفاء الفكر السلفي المتطرف الذي لا يزال يلوح في الأفق؟ وهل سيظل هذا التغيير حبيس المظاهر أم أنه سيغطي جوهرًا حقيقيًا يمكن أن يسهم في بناء سوريا جديدة؟
أحمد الشرع يمثل نموذجًا للشخصية التي تتنقل بين خطابين: الأول قائم على التزمت والتشدد، والثاني يسعى نحو الانفتاح والتعاون. نجاحه في هذا التحول يعتمد على مدى قدرته على تجاوز ماضيه الدموي والتخلي عن أيديولوجيته السلفية لصالح خطاب يتسم بالاعتدال والتفاهم. المستقبل السوري، في حال تمكّن الشرع من تحقيق هذه التغيرات، قد يشهد بداية جديدة تساهم في عملية بناء وطنية حقيقية.
لكن يبقى السؤال الأبرز: هل هذا التحول هو مجرد تكتيك للبقاء في الساحة السياسية، أم هو بداية حقيقية لتغيير الجولاني نفسه في اتجاهٍ يخدم تطلعات الشعب السوري نحو دولة مدنية ومستقرة؟