للدولة أخلاقها وللناس أخلاقهم. هذان عالَمان مختلفان في كل الجوانب تقريباً: في التكوين، والمبررات، ومصادر القوة، وأدوات العمل، وقيمة الفعل، ومعايير النقد والمراجعة… إلخ. الدولة ليست مجموعة أشخاص يديرون بلداً، بل هي تكوين صلب لا يقبل التفكيك. وبهذه الهيئة، فهي مختلفة عن مجموع أعضائها. كي لا نغرق في الكلام العام، دعنا نقارن بين المعادن التي بُنيت منها سيارتُك، وسيارتك نفسها. إن قيمة تلك المعادن (لو جُمعت) لن تبلغ 5 آلاف ريال، أما سيارتك نفسها فقد تتجاوز مائة ألف ريال. السبب أنها ليست مجموعة معادن نُظمت ورُبط بعضها إلى بعض، بل هي شيء آخر يعمل بطريقة مختلفة، ويقاس بمعايير مختلفة، ويُحسب على ضوء قيم مختلفة. ماكينة السيارة كون مستقل، وليست مجموع المعادن التي تألفت منها. كذلك الدولة؛ فهي ليست مجموعة الأشخاص الذي يشغلون مكاتبها. الدولة – ببساطة – عالم قائم بذاته وخصوصياته، ولا يشبه شيئاً غيره.
لو سألت علماء السياسة عن الوصف الدقيق لوظيفة الدولة ودورها، فسوف يذكرون – على الأغلب – تعريف ماكس فيبر الذي قال إن الصفة الجوهرية التي تميزها عن كل شيء آخر، هي أنها «الهيئة الوحيدة التي تمارس العنف بشكل مشروع». وماكس فيبر مفكر ألماني يعدّ من آباء علم الاجتماع الحديث. وهو يرى أن حقيقة الدولة ترتبط بملكيتها مصادر القوة العامة، وتفويضها في توجيه تلك المصادر إلى الجهات التي تراها ضرورية ومفيدة.
لكن ما الذي يمنع انقلاب العنف المشروع إلى عنف اعتباطي، أي غير مشروع؟
حقيقة الأمر أن هذا هو مفتاح النقاش حول «أخلاق السياسة»، الذي تعرضنا له في الأسبوع الماضي. والجواب عن السؤال يكمن في كلمتين: «سيادة القانون».
«سيادة القانون» تعني ببساطة أنه لا يحق لموظفي الدولة أن يتصرفوا في أي شيء إلا بموجب قانون قائم. سواء أكان الموظف وزيراً أم وكيلاً أم مديراً عاماً… أم غيرهم، فهو لا يستطيع فرض غرامات أو رسوم أو تكاليف مالية على الناس، إلا بموجب قانون تصدره الجهة المخولة التشريع، مثل البرلمان أو مجلس الوزراء أو رئيس الدولة. كما لا يُسمح له بالتصرف في الأموال التابعة لإدارته خارج الإطار الذي حدده قانون الميزانية العامة للدولة، بغض النظر عن ميله الشخصي أو رغباته.
انظر الآن إلى الفرق بين الشخص العادي ورئيس البلدية مثلاً: أستطيع أنا وأنت أن نتصرف في أموالنا كما نشاء، فنصرفها على أنفسنا، أو نتبرع بها، أو نودعها في البنك، أو نستثمرها، من دون حاجة إلى استئذان أي شخص. أما رئيس البلدية فهو لا يستطيع شراء كرسي إضافي لمكتبه، إلا بموجب مكاتبات ومخاطبات واستئذان الإدارة المالية.
لقد أدت هذي الإجراءات إلى قيام ما سماها فيبر «البيروقراطية (حكم المكاتب)» التي كان من ثمارها تعطيل الأعمال وتعقيدها، وهذا أمر سيئ من ناحية؛ لكنه، من ناحية أخرى، جعل كل شيء مسجلاً ومقيداً بالقانون، فلا يستطيع الموظف الحكومي – مهما كان منصبه – أن يتصرف وفق هواه في مصادر قوة الحكومة كالمال والسلاح… وغيرهما. ولو فعل هذا، فسوف يحاسب الآن أو بعد زمن، ما دام كل شيء مسجلاً، وما دام الناس يعرفون أن التصرفات الشخصية تخالف مبدأ «سيادة القانون».
هذا الشرح أوضحَ – فيما أظن – أن المقصود بـ«أخلاقيات السياسة» هو «الالتزام بالقانون»، وعدم استغلال موارد الدولة وقواها في المصالح الشخصية، أو اتباع الهوى الشخصي في التعامل معها أو مع المواطنين.
حان الوقت إذن للقول إن من الجيد جداً أن يكون رجل الدولة متواضعاً لطيفاً ليّناً في التعامل. والأفضل أن يوجّه موظفيه إلى ملاينة الناس بدل الخشونة معهم. لكن الحد الأدنى من «أخلاقيات السياسة» هو «الالتزام بالقانون»، وعدم تحكيم الأهواء الشخصية. إن «سيادة القانون» هي العنوان العريض لـ«أخلاقيات السياسة»، والالتزام بها هو ما يميز سياسياً ملتزماً بالأخلاق عن سياسي عابث.