تفحص شبكات كاملة من المسارات الجينية
في إنجاز علمي قد يُغير مستقبل الطب، طوَّر باحثون في كلية الطب بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة، أداة ذكاء اصطناعي مبتكرة، تحمل اسم «غرافر»، قادرة على تحديد الجينات وتركيبات الأدوية التي يمكن أن تعالج؛ بل وأن تعكس مسار الأمراض المعقدة، مثل السرطان والاضطرابات العصبية التنكسية.
وما يميز هذه الأداة أنها لا تركز على بروتين أو هدف جزيئي واحد كما تفعل الطرق التقليدية؛ بل تحلل شبكات كاملة من الجينات والمسارات الإشارية داخل الخلايا، لتجد أفضل الطرق لإعادة الخلايا المريضة إلى حالتها الطبيعية.
استهداف السبب الجذري للمرض
تعتمد أداة «غرافر» (PDGrapher) على نوع متقدم من الذكاء الاصطناعي يُعرف بالشبكة العصبية البيانية (Graph Neural Network) القادرة على فهم العلاقات المعقدة بين الجينات والبروتينات داخل الخلايا. وبدلاً من البحث عن «مفتاح تشغيل أو إيقاف» للمرض، تحدد الأداة مجموعات الجينات المسؤولة عن استمرار الحالة المرضية، وتقترح أفضل التدخلات لإيقافها.
وشبَّه الباحثون الأمر بمحاولة إصلاح وصفة طعام فاشلة. فبدلاً من تجربة مكونات عشوائية، فإن البيانات تساعدنا على معرفة التركيبة المثالية لإصلاح الخلل بسرعة ودقة.
ونُشرت نتائج هذا العمل الرائد في مجلة «Nature Biomedical Engineering» يوم 9 سبتمبر (أيلول) 2025، بقيادة مارينكا زيتنيك، من قسم المعلوماتية الطبية الحيوية بكلية الطب في جامعة هارفارد، بالولايات المتحدة الأميركية.
نتائج مذهلة في مجال السرطان
اختبر العلماء فاعلية أداة «غرافر» عن طريق تدريبها على بيانات مأخوذة من خلايا، قبل وبعد تلقي العلاجات، ثم اختبروها على 19 مجموعة بيانات مستقلة تغطي 11 نوعاً من السرطان.
ومن المثير للاهتمام أن الأداة لم تُعِد اكتشاف الأهداف العلاجية المعروفة فحسب؛ بل كشفت أيضاً عن أهداف جديدة مدعومة بأدلة علمية حديثة. فعلى سبيل المثال: سلَّطت الأداة الضوء على مستقبل KDR (VEGFR2)، وهو بروتين مرتبط بنمو الأورام، وأظهرت نتائج واعدة في تجارب سرطان الرئة. كما حدَّدت إنزيم TOP2A الذي يرتبط بانتشار الأورام، ما يتماشى مع بحوث حديثة حول دوره في تطور السرطان.
وقد تفوقت «غرافر» في تصنيف الأهداف الصحيحة عند مقارنتها مع أدوات الذكاء الاصطناعي الحالية، بنسبة 35 في المائة، وعالجت البيانات أسرع بـ25 مرة، ما يثبت قدرتها على تقليص الوقت والتكاليف في اكتشاف الأدوية.
إن واحدة من أهم مزايا «غرافر» هي قدرتها على توضيح سبب فعالية بعض تركيبات الأدوية معاً. فمن خلال تحليل العلاقات السببية بين الجينات والمسارات، تساعد الأداة العلماء على فهم كيفية تفاعل الأدوية عند استخدامها مجتمعة، وهي خطوة حيوية؛ لأن السرطانات غالباً ما تطوِّر مقاومة للعلاجات أحادية الهدف.
ويقول الباحثون إن استهداف نقاط ضعف متعددة في وقت واحد، يمكن أن يمنع الأورام من التكيُّف والبقاء، ما يجعل العلاجات المركبة أكثر قوة وفاعلية.
أمل جديد للأمراض العصبية
لا يقتصر استخدام «غرافر» على السرطان فقط؛ إذ يعمل الفريق على تطبيقه في دراسة أمراض عصبية تنكسية، مثل باركنسون وألزهايمر، وحتى الاضطرابات النادرة، مثل خلل التوتر العضلي- باركنسون المرتبط بالكروموسوم «إكس» (X)، بالتعاون مع مستشفيات كبرى، مثل مستشفى ماساتشوستس العام.
ويكمن الهدف في إيجاد استراتيجيات علاجية جديدة لهذه الأمراض، التي ما زالت خيارات علاجها محدودة للغاية.
وكذلك ينظر العلماء إلى أداة «غرافر» كحجر أساس في مجال الطب الدقيق أو الطب الشخصي؛ حيث يمكن تصميم علاج خاص بكل مريض، بناءً على بصمته الجينية والخلوية الفريدة.
وقد يحسِّن هذا النهج فاعلية العلاج، ويقلل من آثاره الجانبية؛ لأنه يبتعد عن مبدأ «العلاج الواحد للجميع» ويتجه نحو علاجات مُصممة خصيصاً لكل حالة على حدة.
وقد تفتح «غرافر» الباب أمام حقبة جديدة في تطوير العلاجات، من خلال دمج الذكاء الاصطناعي مع علم الأحياء ونمذجة الشبكات الجينية. فبدلاً من استهداف جزيئات منفردة أو تخفيف الأعراض فقط، تسعى هذه الأداة إلى إعادة برمجة الخلايا المريضة من الجذور، ما يمنح الأطباء والباحثين خريطة طريق واضحة لمكافحة الأمراض المعقدة.
وقد عبَّر فريق «هارفارد» عن ذلك، بقولهم: «نحن لا نسرِّع اكتشاف الأدوية فقط؛ بل نعيد تعريف الطريقة التي نفهم بها الأمراض ونعالجها».