تتراكم الصعوبات أمام اللبنانيين الباحثين عن متغيّرات سياسية ومعيشية على حدٍّ سواء، تكاد تختصر في انتفاء العدالة، بدءاً من المراوحة في تسليم منفّذي اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري بعد مرور سنة إضافية على ذكرى الكارثة التي أودت بالبلد، من دون إغفال ركود تحقيقات الجرائم السياسية المتلاحقة التي لا تتحرّك قيد أنملة، فيما كانت بيروت قبل أسابيع أيضاً على موعد حزين مع ذكرى اغتيال المفكّر الشهيد لقمان سليم، في ظل تحقيق يراوح مكانه وعدالة غائبة.
ويعتبر أهالي شهداء مأساة انفجار مرفأ بيروت في خضمّ البحث عن الحقيقة والعدالة لذويهم، من دون أن تتبلور أيّ متغيّرات في الملف حتى اللحظة رغم الوقفات التضامنية أمام قصر العدل التي تشكّل استثناءً صارخاً، خصوصاً بعد قرار وقف تنفيذ مذكّرات التوقيف، ما لا يمنع التمسّك في الإطار القانوني للتحقيقات بالنسبة إلى مواكبي القضية الذين لا يغيب عنهم الاندفاع، رغم الغيوم التي لا تزال ملبّدة وعناء احتجاج الأهالي الذي لم يخفت. ومن البحث عن العدالة القضائية إلى العدالة الاجتماعية، مع إضرابات ساخطة للموظفين في الإدارة العامة الذين كانوا بدأوا إضرابهم منذ أسابيع وسط انهيار القدرة الشرائية لرواتبهم، خصوصاً بعد الضرائب والرسوم الإضافية التي أُقرّت في مشروع الموازنة. وكانت دعت رابطة موظفي الإدارة العامة إلى إضراب شامل حديثاً، نتيجة ما اعتبرته تجاهلاً لحقوق محدودي الدخل في القطاع العام، مع تحضيرها للتحرّكات أمام الإدارات العامة. وكانت شهدت الأيام الماضية تظاهرات حاشدة للعسكريين المتقاعدين في بيروت، الذين رفعوا الصرخة قبل أيام مطالبين حكومة تصريف الأعمال بالبتّ في تحسين رواتبهم التقاعدية، وأقفلوا المداخل المؤدية إلى مجلس الوزراء تزامناً مع انعقاد جلسة حكومية صادق ضمنها مجلس الوزراء على الموازنة التي كان أقرارها أدّى إلى غضبٍ من قطاعات عدّة في لبنان. تأتي الاحتجاجات على تنوّعها، فيما صُنّفت بيروت في المرتبة 191 عالمياً والأخيرة عربياً في مؤشّر نوعية الحياة، وفق موقع “نامبيو للإحصاءات”، خلال تصنيف 195 مدينة حول العالم، استناداً إلى نتائج محدّدة. فهل تفاقم الفشل على نطاق كل مضامين الدولة اللبنانية في شتى المعايير؟ وماذا عن حقوق الإنسان في هذه الدولة، خصوصاً بعد كلّ عناء قضية انفجار المرفأ؟ يقول عضو مكتب الادّعاء الخاص في تفجير مرفأ بيروت المحامي شكري حدّاد، إنّ “لبنان أمام منزلق خطير جدّاً، وقد وصل إلى لحظة حاسمة بين إما الفشل وإما ترسيخ مفهوم حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، علماً أنّ العدالة تتقدّم في بطء مع أهمية أن يحقّقها القضاة بحاضنة حقوقية وطنية”.
ويوضح حدّاد لـ”النهار العربي”، أنّ “إقفال الإدارات وفشلها ناتج من غياب الدقّة في تعيين الموظفين وعدم تنقية الإدارة في لبنان. وما يعانيه أهالي شهداء المرفأ هو بمثابة صراع من أجل إحقاق الحق والعدالة في قضيتهم، بعدما كان لبنان البلد الراعي لحقوق الإنسان منذ نشأته، ويرى الأهالي أهمية تطبيق تلك المفاهيم ورفضهم مخالفة المفاهيم الحقوقية والقانونية”. ويخشى حداد أن “تترسّخ ممارسات تحوّل الدولة من دولة قانون إلى دولة بوليسية تحكمها منظومة أمنية سياسية ضمن الإدارة. ويكمن السبيل في مواجهتها عبر التفاف المواطنين حول هذه القضية وتصويب البوصلة من قِبل القضاء. نتحرّك بحزم في هذه القضية على أمل الوصول الى خواتيم سعيدة. المضايقات دائمة بحكم تحرّك رمال الملف الدائم، عبر استدعاءات متتالية أمام القضاء والضابطة العدلية، رغم عرقلة التحقيق، إنما الإطار القانوني لاستكمال التحقيق موجود، إذ لا قانون في العالم يصل إلى حائط مسدود، لا سيما وأنّ الحقوق المُطالب بها هي حقوق إنسان”. من جهته، يعتبر وزير العدل اللبناني السابق البروفسور ابراهيم نجّار، أنّ “الدولة اللبنانية فاشلة بالتأكيد، لكن الشعب اللبناني لا يزال يساند ذاته في بعض نواحيه، ويمكن القول إنّ الدولة مفلسة لكنّ مواردها غنيّة”. وتبيّن له أنّ القطاع الخاص لديه إمكاناته للتأقلم والصمود، فيما ينتظر الشعب اللبناني إعادة انتظام مؤسسات الدولة في هذه المرحلة، علماً أنّه لا يرجّح حلولاً سريعة. ويقول نجّار لـ”النهار العربي”، إنّ “لبنان تحوّل جزراً قاحلة من ناحية عدم احترام حقوق الإنسان وانتفاء الأسس الديموقراطية، لكن الضمير الحيّ للشعب اللبناني لا يتوانى عن العمل لإعادة بناء الدولة بعد انهيار متلاحق. وإذا كان كلّ ما يتمحور حول أوضاع الدولة اللبنانية ينحو في اتجاه التفكّك، إلاّ أنّ ذلك لا يلغي وجود موظفين يتميزون بالجدارة والكفاية، شمولاً في قضاة مستقلين يتخذون من القانون والعدالة مبادئ لهم رغم تأثّر البعض في السياسة”. وبعدما كان نجّار شاهداً على “بدء انحلال الدولة اللبنانية مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، وتحديداً بين عامي 1975 و1983 وسط تشتّت للقضاء والإدارة، حتى جاء بطلٌ هو الرئيس بشير الجميّل الذي استطاع خلال أيام بعد انتخابه أن يشكّل بداية التغيير قبل استشهاده”، فإنّه يثني على “النظام الديموقراطي البرلماني اللبناني والإرساليات والحرّيات التجارية، التي تُعتبر مسائل من أساسيات لبنان، لكنّنا في أزمة حكم وسط دولة فاشلة”. ولا يغفل نجّار “الشغور في رئاسة الجمهورية الذي يفاقم الأوضاع في دولة منهارة وصعوبات اقتصادية لم يشهدها لبنان في مرحلة الحرب الأهلية، فيما يشكّل تعيين وزير مستقل وشجاع للعدل، بداية تحقيق العدالة، على أن يعلم دهاليز العدلية ويسهم في إعادة النظر في التشكيلات القضائية”.