على حين غرة اشتعلت أزمة غير مسبوقة بين الجزائر ومالي. الأخيرة استدعت السفير الجزائري للاحتجاج على “أفعال غير ودية” من جانب جارتها الشمالية، لترد الأخرى باستدعاء السفير المالي نافية “ادعاءات” السلطات في جارتها الجنوبية، ومذكرة بدعوتها في بيان لها في 13 كانون الأول (ديسمبر) جميع الأطراف في مالي “إلى تجديد التزامها تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة المنبثق من مسار الجزائر استجابةً للتطلعات المشروعة لجميع مكونات الشعب المالي الشقيق في ترسيخ السلم والاستقرار بصفة دائمة ومستدامة”.
البيان الذي أعقب لقاء وزير خارجية الجزائر أحمد عطاف الخميس، السفير المالي ماهامان أمادو مايغا، أكد اجتماعات الجزائر مع قادة الحركات الموقعة على اتفاق السلم والمصالحة في مالي، وهو ما قالت الخارجية الجزائرية إنه “يتوافق تماماً مع روح بيان 13 كانون الأول ونصه” المذكور آنفاً، بل أعرب عطاف عن أمله في أن “تنضم الحكومة المالية التي جددت تمسكها بتنفيذ هذا الاتفاق، إلى الجهود التي تبذلها الجزائر حالياً بهدف إضفاء حركية جديدة على هذا المسار”.ويقول الباحث المتخصص في الجغرافيا السياسية سيف الدين قداش في حديث إلى “النهار العربي”، إن السلطات في مالي أساءت التقدير باستدعائها سفير الجزائر لديها “مع سوء فهم، بخاصة أنها تعتمد (السلطات المالية) على مقاربة عسكرية رافضة غيرها من المقاربات، مع تشدد واضح في مواقفها الدولية؛ بينما الجزائر، نظراً إلى حدودها الطويلة مع مالي (1400 كيلومتر)، وارتباط سكان شمال مالي بجنوب الجزائر، فإنها تقود جهوداً للتحكم في مآلات المخاطر الأمنية الناجمة عن الصراع بين سلطات مالي وحركات أزواد، فضلاً عن مخاطر وجود جماعات إرهابية ومسلحة”. ويضيف أن الجزائر قادت وساطات ولقاءات مع فعاليات مالية منذ تسعينات القرن الماضي، وكان النظام المالي متفهماً بل مسانداً لمساعي الجزائر لإحلال السلام في هذا البلد. استقبال ديكو يثير غضب ماليويقول متابعون، إن الاستقبال الذي حظي به أحد أقطاب حركات أزواد في مالي إمام الطريقة الدينية الكنتية محمود ديكو، من الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بحر الأسبوع الماضي، أثار حفيظة السلطات في مالي، بخاصة أن ديكو يعد من أشرس المعارضين والمنتقدين للنظام العسكري في هذا البلد.
وفي هذا الشأن يقول قداش، إن استقبال تبون لمحمود ديكو “لا يمكن أن يُفهم منه التدخل في الشأن الداخلي لمالي، بل جوهره التحاور مع القوى الفاعلة للمساهمة في استقرار المنطقة وعدم جلب القوى الدولية من جديد إليها، بخاصة أن نيات الجزائر واضحة ولا تتجاهل الأطراف الأخرى عكس ما تفعله قوى غربية جرى القبض على جواسيس لها في إحدى دول غرب أفريقيا”.
الجزائر و3 عقود من رأب الصدع تنعم مالي بالاستقرار على مدى العقود الثلاثة الماضية، إذ لا تكاد البلاد تنام إلا لتستيقظ على انقلاب أو هجوم مسلح أو ما شابههما، وهو صداع لطالما أرّق الجارة الجزائر التي سعت منذ تسعينات القرن الماضي إلى حفظ الأمن والاستقرار، بحسب متابعين، كما كانت راعية ووسيطاً مقبولاً لجميع الأطراف المالية، سواء للحكومة المركزية في الجنوب بباماكو أم لأعضاء تنسيقية حركات أزواد، يشرح قداش. ويلفت إلى “نجاح الجزائر في نزع فتيل الحرب بإبرام اتفاق الجزائر عام 2015، الذي قضى بإدماج أزواد في مختلف مؤسسات الدولة الرسمية مع ضرورة تنمية مناطق كيدال، غاو وتمبكتو”.
توقيع “اتفاق الجزائر” بشأن مالي في 2015.بين الأزواد والطوارقوعن تعامل الجزائر مع أزواد كامتداد لطوارق جنوبها، يشير قداش إلى أن “الفرد الأزوادي والطوارقي بالخصوص موجود كمكون وطني جزائري أصيل، وبالتالي فإن الجزائر تتعامل مع أزواد كامتداد عرقي طبيعي يؤثر على أمنها واستقرارها، لذا فإن مساعيها لضمان السلام والتواصل مع مختلف الأطياف والحركات في مالي ينبع بالأساس من مساعيها لحفظ السلم في هذا البلد الجار والشقيق وضمان أمنها بالضرورة”.
الجزائر وسلطات مالي الجديدة… مفترق الطرق!وعرفت الأوضاع في مالي منذ الانقلاب قبل أكثر من عامين والذي تصفه أطراف عدة بـ”الانقلاب داخل الانقلاب”، تدهوراً كلياً، بخاصة على المستوى السياسي، إذ شلت عملية السلام بالكامل، وأدت الأوضاع إلى تحالف أزواد مع قرى متطرفة، مبررة ذلك بعدم التزام السلطات المالية الجديدة باتفاق الجزائر. وفي آب (أغسطس) الماضي أصبح شمال مالي عرضة للمعارك بين الجانبين (السلطات المالية وتنسيقية حركات أزواد)، جراء اختيار الجيش المالي للحل الأمني بهدف بسط سيادته عوضاً عن تنفيذ مخرجات اتفاق الجزائر، وهو ما قوض السلم والأمن في منطقة الساحل ككل وينذر بتكرار سيناريو 2012 بحسب محللين.
وفي هذا الخصوص يقول قداش، إن المعطيات الأخيرة تؤكد “تدخل قوى إقليمية وعربية على الخط، إذ تسعى هذه الأخيرة لتهديد أمن الجزائر خدمة لأجندة دول معروفة بعدائها للبلاد”، ويضيف أن وسائل إعلام جزائرية حكومية وغير حكومية، تحدثت عن تورط دول عربية وأجنبية في “تمويل وسائل إعلام أوروبية ومغربية للتهجم على الجزائر وتشويه علاقاتها مع دولتي النيجر ومالي بموازنة مقدارها 15 مليون دولار، وهو ما يؤكد المعلومات الاستباقية التي تحوزها مصالح الأمن الجزائرية”، فضلاً عن أنها تكشف مخططات هذه الدول قبل تنفيذها، وهو ما يعني أن المخطط أعمق وأوسع، يؤكد قداش.
ويلفت الباحث الجزائري الى أنه “سبق وجرى الحديث عن مخططات لإطلاق الجهاديين المغاربة وغيرهم في منطقة الساحل وعلى حدود الجزائر بعدد 7500 إرهابي، وبالتالي يتجلى أن الجزائر تفكك الألاعيب والمؤمرات التي تستهدفها مع القوى الفاعلة في المنطقة، سواء كانت شعبية أم دينية أم رسمية”.
وبالعودة إلى الوضع في مالي، فإن وساطة الجزائر كانت قد نجحت في تعليق عقوبات الاتحاد الأفريقي ومجموعة غرب أفريقيا “إيكواس” بعد فرض الأخيرة عقوبات على السلطات المالية إثر الانقلاب الأخير، كما أبقت الجزائر حدودها مفتوحة واستمرت في دعم اتفاقها المبرم بين الأطراف المالية عام 2015، أملاً في حل نهائي لأزمة تهدد حدودها منذ أزيد من 30 سنة.