توفيق السيفكاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
كرَّس الدكتور محمد الرميحي مقالته المنشورة بهذه الصحيفة، يوم السبت الماضي، للتعليق على جدل عنيف، نتج عن موقفه من دعوة بعض البرلمانيين لإلغاء الفصول المختلطة في التعليم الجامعي. اتَّسم هذا الجدل بعنفٍ لفظي واضح من جانب الذين يدَّعون الدفاع عن الفضيلة. عنف لا يقف عند تسفيه الرأي المخالف؛ بل يتعداه إلى شتم صاحب الرأي، واتهامه بالخيانة والجهل والمروق من الدين، وما أشبه.
وقد سبق للرميحي وغيره من أهل الرأي أن تعرضوا لاتهامات من هذا القبيل. لكن المقال آثار نقطة جوهرية، تستحق مزيداً من المعالجة، وهي إشارته إلى أن هذا الجدل وأمثاله يعبر عن «أزمة هوية»، تتجلَّى كلما برزت على سطح الحياة اليومية تحديات الانتقال من عصر التقاليد إلى عصر الحداثة.
وفقاً لتعريف إريك إريكسون، عالم النفس الأميركي، فإن أزمة الهوية تعبير عن إخفاق الشباب في الموازنة بين تطلعاتهم الشخصية ومتطلبات الحياة الاجتماعية؛ خصوصاً في المجتمعات التي تمر بتحولات متسارعة، ثقافية واقتصادية، تؤدي بالضرورة لتغيير مواقع الأشخاص ودوائر علاقاتهم، والأعراف التي تنظم هذه العلاقات.
وقد لاحظت أن أهم تحولات الهوية الفردية في مجتمعنا، نتج عن انفتاحه على مصادر تأثير ثقافي وأنماط حياة جديدة، تعارض ما ورثناه عن الأسلاف. وأميل للاعتقاد بأن بداية التحول العميق ترجع للعقدين الأخيرين من القرن العشرين، وساهمت فيها بشكل متوائم برامج تحديث الاقتصاد وتغيير سياسات التعليم، إضافة للتوسع في إلحاق الطلاب بالجامعات الأجنبية. أما ذروة التحول فقد حدثت –وفق تقديري– في السنوات الخمس الماضية، نتيجة لوصول الإنترنت السريع إلى كل قرية وبلدة في أنحاء المملكة.
وفَّر الإنترنت فرصة للشباب للانفتاح المباشر على عوالم جديدة. ولم يعد للعائلة والمدرسة والنظام الاجتماعي بمجمله، إلا القليل من التأثير على ذهنية الفرد، أما المساهم الأعظم فقد بات هو الفرد نفسه الذي يختار بوعي ومن دون وعي، من موائد لا أول لها ولا آخر، موائد بعيدة تماماً عن التجربة التاريخية لمجتمعنا.
كل من هذه التغيرات يواجه الذهنية التقليدية بتحدٍّ جديد، يدعمه نمط حياتي أكثر تقدماً وأكثر يسراً وجاذبية، الأمر الذي يضع الفرد على المحك: إما التخلي عن عالمه القديم، وإما الحرمان من ثمرات الحياة الجديدة.
وفقاً لرؤية إريكسون، فإن التحول المشار إليه، يؤدي لعسر في التفاهم بين جيل الشباب وآبائهم؛ ليس لأنهما يرفضان التفاهم؛ بل لأن اختلاف المشارب الثقافية يجعل كلاً من الآباء والأبناء ينطلق من خلفية مختلفة؛ بل عالم مفهومي ومعنوي مباين للآخر. إن حاجة الأب والابن للحفاظ على العلاقة القائمة، تؤدي بالضرورة إلى قدر من التكلف والعناء الذي ينعكس على شكل أزمة نفسية، هي ما نسميها أزمة الهوية.
رؤية إريكسون تنطبق على الشباب؛ لكني وجدت أزمة الهوية عند شريحة واسعة من الآباء أيضاً. وهي تتجلى في صورة رفض داخلي للقديم مع قبوله في الظاهر، أو رفض داخلي للحديث مع رغبة قوية في التمتع بخيراته. ينتج هذا التنافر ازدواجية في القيم، تمثل مظهراً آخر لأزمة الهوية.
أظن أن مرجع التأزم عند كلا الطرفين: الشباب والآباء، هو بطء التفاعل بين تراثنا الثقافي، الديني وغير الديني، وبين متغيرات العصر الثقافية؛ لا سيما منظومات القيم الجديدة، وما يترتب عليها من علائق بين الناس، وتموضعات اجتماعية مختلفة عما ساد في الماضي.
أعتقد أن شريحة واسعة من أبناء مجتمعنا، من الآباء خصوصاً، يعانون من عسر شديد في التوفيق بين قناعاتهم القديمة وحياتهم الجديدة. ولو نظرنا للسبب العميق وراء كل هذا، لرأيناه في حقيقة أن تراثنا الثقافي يريد للفرد أن يكون تابعاً مطيعاً، لا مشاركاً أو صانعاً للقيم التي تقود حياته. وهكذا يتوجب عليه البقاء منفعلاً ومتأثراً، إن أراد التمتع بفضائل النظام القديم.