آراءعبد اللطيف السعدون30 مارس 2022
توحي الرسائل المتبادلة بين شخصيات رواية “كرسي الرئاسة”، للمكسيكي كارلوس فوينتس، (ترجمها إلى العربية خالد الجبيلي)، أن ثمة مشاهد ووقائع منظور إليها من قبل. وفي العراق ما يشبهها، كما لو أن فوينتس عاش بيننا في العشرين سنة الأخيرة، واختبر الحياة السياسية كما اختبرناها نحن، وأيضا كما لو أن الطبقة السياسية التي تؤرّخ لها الرواية هي نفسها الطبقة التي تحكم العراق اليوم. وليس ثمّة غرابة، فالسياسيون الفاسدون في كل بلاد الله يتشابهون في ما بينهم، ويتعاطف بعضُهم مع بعضهم الآخر، في وقتٍ يدبر بعضُهم لبعض المؤامرات والمكائد، و”يلدغ أحدهم الآخر مثل العقرب”. وعندما يجلسون على كراسي الحكم، يعِدون مواطنيهم المغلوبين على أمرهم بالديمقراطية وحكم القانون وفصل السلطات، لكن مكمن الخطر هنا أن المواطنين يصدّقون تلك الوعود، ويذهبون إلى صناديق الانتخاب المضلّلة واجتماعات الأحزاب، وحتى إلى الإضرابات والاحتجاجات، أملا في أن يحدث التغيير الذي يريدونه، والوصفة التي تقدّمها الرواية للداخلين إلى حلبة الحكم في دول أميركا اللاتينية هي نفسها الوصفة التي يعمل لها “سياسيو المصادفة” في العراق الذين جمعتهم أميركا من الأزقة الخلفية لدول الغرب والجوار، إذ “عليهم أن لا يكونوا منافقين ومخادعين فحسب، إنما عليهم أن يكونوا ماكرين أيضا”. وأن يكون لديهم نوع من الحرص على أن يأخذ كلٌّ حصّته من الغنيمة، من دون أن يسبب أذى لصاحبه، وتظل عيونهم جميعا شاخصةً نحو موقع “الرئيس” المتقدّم الذي يحمل من الجاذبية والإغراء الشيء الكثير، وتكتمل نصيحة فوينتس للسياسي الذي يفوز بالكرسي أن يضمن منذ اليوم الأول أنه لن يكون هناك ثمّة صوت آخر سوى صوته!
السياسيون الفاسدون في كل بلاد الله يتشابهون في ما بينهم، ويتعاطف بعضهم مع بعضهم الآخر
سيناريوهات مثيرة كهذه ظهرت في العراق مع الغزو الأميركي للبلاد، واستوطنت على نحو مكشوف، واشتدّ أوارها مع كل أزمةٍ واجهتها “العملية السياسية” المشرعنة، وجديد ذلك ما استجدّ في الأسبوع الأخير الذي سبق يوم انعقاد جلسة البرلمان المخصّصة لانتخاب رئيس للبلاد، والذي عكس رهان كثيرين ممن سعوا إلى إحداث اختراقٍ في “العملية السياسية” التي عمّرت أكثر مما توقع مريدوها (بفتح الميم أو بضمّها). لكن إمكان حدوث اختراق كهذا لم يكن سهلا، كما لم يكن في طوع أيدي من أراده، ولذلك ستكون هناك جلسة أخرى للبرلمان اليوم (الأربعاء) للبحث عن “رئيس” من بين المرشّحين الـ 33، وهو عدد لم يشهد المكسيك ولا أي بلد آخر مثيلا له، وربما يمكن للعراق بسببه أن يدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية. وما هو مثير حقا أن يكون بين كل هؤلاء المرشّحين من لا يؤمن بعراق موحّد، وصوّت في “استفتاء كردستان” الميت تاريخيا لصالح الانفصال عن العراق، وإعلان دولة كردية مستقلة!
لا يأبه السياسيون في العراق لمواطنيهم، ولا يكترثون لمطالبهم
وربما يتساءل قارئ: ما الذي دفع بكل هؤلاء إلى الطمع في المنصب المذكور، مع أن الدستور العراقي أعطى رئيس الجمهورية مهماتٍ لا تتعدى الطابع البروتوكولي الاحتفالي، إذ اعتبره “رمزا لوحدة الوطن وممثلا لسيادة البلاد، ويسهر على ضمان الالتزام بالدستور والمحافظة على استقلال البلد وسيادته ووحدة وسلامة أراضيه”، من دون أن يكرّس ذلك بصلاحياتٍ واضحةٍ ومحدّدة، لكن الظاهر أن “كرسي الرئاسة” في الحالة العراقية الماثلة هو مطمح كثيرين، لأنه كما وصفته تغريدة ساخرة على موقع تواصل: “الكرسي الذي يضمن لشاغله العيش عاطلا ومن دون عمل لكن مسموح له أن ينفق من المال العام ما شاء لنفسه ولأهله وأقاربه وأصدقائه”. وعلى أية حال، يظلّ هذا الكرسي في العراق، وعلى الرغم من السحر الذي يغلفه، أقرب ما يكون إلى “كعب أخيل” الذي يمثل واحدةً من نقاط ضعف “العملية السياسية” التي هي اليوم موضع خلاف واختلاف بين من يريد إعادة إنتاجها ومن يريد إنهاءها لصالح عملية سياسية يزعم أنها سوف تكون “وطنية” قد تمثل، إن صحّت النيات، خطوةً نحو المراجعة والتغيير المنشود. وهذا ما يخشاه كثيرون من رجال الطبقة السياسية الذين اعتاشوا عليها عشرين عاما، من دون أن يخطر ببال أحد منهم أن يعتزل أو يتقاعد أو ينصرف إلى ممارسة هواياته.
بقي أن يقال إن تجربة الحكم في المكسيك التي عرضها لنا كارلوس فوينتس تظل أكثر نقاءً، وحتى أقل فسادا من قرينتها في العراق، وإن أفراد الطبقة السياسية هناك يعملون على تقديم بعض ما يريده مواطنوهم لضمان كسب أصواتهم. أما عندنا فلا يأبه السياسيون لمواطنيهم، ولا يكترثون لمطالبهم.