الفيلم الأميركي “No Escape” عرضته، أخيراً، إحدى محطّات التلفزة تزامناً مع استمرار حرب الإبادة، يحكي عن عائلة أميركية، مكوّنة من الأب والأم وطفلَين، تحاول الهروب من القتل في بلد آسيوي قرّر الانقلاب على الشركات الأجنبية (الأميركية) التي تسيطر على مقدّراته، وإعدام الأجانب فيه. كانت المشاهد مثيرةً وصعبةًُ، مع محاولات نجاة أكثر من مرّة من فم الموت؛ في مشهدٍ، يُخفي الأب عائلته تحت جثث القتلى الأجانب كي لا يراهم المنقلبون، ويتبوّل طفله الأصغر لا إرادياً من شدة الخوف. وفي مشهد مؤثرّ، يحاول الأبوين، ضمن مطاردة طويلة ومُرهِقة، إقناع طفليهما بالقفز من مبنى مرتفع في ثوان معدودة، ثمّ يضطرّ الأب لإلقاء أطفاله واحداً تلو الآخر إلى المبنى المجاور، في قرار صعب ينطوي على خطورة كبيرة. وكان المفترض أن يتفاعل المُشاهِد مع الحبكة الإنسانية التي يطرحها الفيلم، إلا أن مشاهد القتل الحقيقية، ورائحة الموت في غزّة، وقفت حائلاً أمام هذا التفاعل المعتاد مع سينما احترافيةٍ عالميةٍ، فالـ”تعاطف” معها لم يعد تلقائياً أو مبرّراً في ظلّ السياسة الأميركية الداعمة للإبادة.
التناقض وسياسة الكيل بمكيالين يُضعفان الخطاب الأميركي السياسي والثقافي والاجتماعي ويعرّيانه، ويعزّزان العداء الدولي وخطاب الكراهية
يزخر التاريخ الأميركي بشواهد تعزّز سلوك الولايات المتحدة العنجهي، فهل تضرب واشنطن عرْض الحائط بالعداء العالمي المتصاعد ضدّها بعد دعمها العسكري والسياسي والثقافي لحرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزّة؟… لِمَ لا، فقد واجهت أميركا العالم بأسره قبيل (وخلال) غزوها العراق عام 2003، بمسوّغ غير مثبت يتعلّق بامتلاكه أسلحة دمار شامل، تبيّن فيما بعد عدم وجودها، وما تلا ذلك الغزو من حربٍ مفتوحة وموجات عداء ضدّ العالمين، العربي والإسلامي. وازدادت النار اشتعالاً عقب هجمات 11 سبتمبر (أيلول 2001)، إذ استعرت ردّة الفعل الأميركي على قتل مدنيين أميركيين، واعتبرته واشنطن مبرّراً لشنّ حرب عالمية على ما أسمته “الإرهاب”، إلا أنها اليوم دعمت علناً، بل ساهمت في قتل المدنيين الفلسطينيين وإبادتهم في ما يعتبر جرائم حرب دولية، بل رفعت حقّ النقض (فيتو) ضدّ وقف إطلاق النار في غزّة في مجلس الأمن، وهذا كلّه يعني حتماً أن عليها مواجهة “العالم” الذي يرفض أخلاقياً، وعلى الأقلّ لفظياً، قتل المدنيين.
التناقض وسياسة الكيل بمكيالين (الأميركية) يُضعفان الخطاب الأميركي السياسي والثقافي والاجتماعي ويعرّيانه، ويعزّزان العداء الدولي وخطاب الكراهية. هذا الخطاب، الذي رغم أن مفهومه لم يُحدّد أُممياً، إلا أنه ينطوي على كلامٍ مسيء يستهدف مجموعةً دينيةً أو عرقيةً، وهو في واقعنا اليوم كراهية ضدّ أنظمة بكلّ أدواتها الاقتصادية، التي تموّل مطامعها الاستعمارية عبر الاحتلال الاسرائيلي في المنطقة العربية. فهل طورّت تلك المطامع والسياسات بُعداً جديداً إلى ذلك الخطاب يمكن وصفه بـ”خطاب الكراهية المُبرّر”؟
مؤكّدٌ أن هذا العداء سيشمل الثقافة الأميركية التي اعتُبِرت دوماً جزءاً أساسياً من قوّتِها الناعمة، فالأدب والفنون والقيم ليست مجرّد أدوات للهيمنة، بل وسائل لإقناع العالم بجاذبية النموذج الأميركي، الذي يتعرّض اليوم لاهتزازٍ غير مسبوق. لقد اعتمدت أميركا على المزج بين القوة العسكرية والدبلوماسية الناعمة لترسيخ صورتها رمزاً للثقافة والحضارة والديمقراطية، وهذا طبعاً يرفع صادراتها وإيراداتها ويدعم اقتصادها ليبقى الأقوى عالمياً، فهل سيشهد العالم تحوّلاتٍ تُغيّر نظرتَه إلى هذه القوة الناعمة فيتراجع الشغف بمتابعة الأفلام الأميركية أو حتى التفاعل معها؟ هل نقف على أعتاب مرحلة تفكّك النموذج الأميركي في الفنّ والسلوك والموضة، إذ لا يُمكن لثقافة الإبادة والاستعمار أن تستمرّ بلا ثمن، فهي مرفوضةٌ إنسانياً وعالمياً، أم أن تسيّد الثقافة الأميركية سيستمرّ برغم جوهرها الإبادي؟
كان هروب العائلة الأميركية في الفيلم المُشار إليه أعلاه مؤثّراً، إذ يصعُب على أيّ إنسان ألا يتعاطف مع معاناة المدنيين. ولكن في سياق الإبادة الجارية، من الصعب على المشاهد أن يظلّ قادراً على التفاعل مع هذه الرواية أو يتجاهل السينما بوصفها إحدى أدوات الهيمنة، وجزءاً من منظومة اقتصادية تدعم الاحتلال. إن تزامن عرض الفيلم (وهو من إنتاج عام 2016) أثار أسئلةً أعمق عن علاقتنا جمهوراً ومثقّفين بالمُنتَج الأميركي، وعن قدرتنا على فصله عن سياسات دولته. لكن من المؤكّد أن الناس سيجدون صعوبةً في التحكّم بمشاعرهم، ودرجة استمتاعهم بالمنتجات الأميركية، فهؤلاء الناس رأوا أيضاً ذبح الفلسطينيين وقتلهم في مشاهد لن يستطيع فيلم أميركي أو غير أميركي تجسيدها، لكن من الممكن أن يتحدّ الفلسطيني “الضحية” مع الإسرائيلي “الجلاّد”، ليس في سياق التطبيع الذي يساوي بين الظالم والمظلوم، بل في سياق الانتصار لمعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال، وهذا الاتحاد حدث في فيلم “لا أرض أخرى” لأربعة مخرجين فلسطينيين وإسرائيليين، نال في النهاية جائزة الأوسكار عن أفضل وثائقي طويل لهذا العام.
نجاح أميركا وإسرائيل في السيطرة على الخطاب الثقافي لن يكون سهلاً في ظلّ مقاطعة تطاول المنظومة الثقافية الأميركية كلّها
كلّف قتلُ المدنيين وتعذيبهم، في فيتنام والعراق وأفغانستان، الأميركيين ثمناً باهظاً في حروبهم، إذ بدت بشاعة النظام الأميركي الذي يدّعي الإنسانية والديمقراطية. وبناء عليه، أعادت أميركا تقييم مصالحها وسياستها في هذه المناطق، كذلك فعلت بعد أحداث “11 سبتمبر” (2001). ومثل ما كان هناك مصطلح “قبل وبعد” سبتمبر، سيكون هناك “قبل وبعد” حرب الإبادة على قطاع غزّة، فلم يعد العالم يتقبّل الفكر والثقافة الأميركيين كالسابق. ولا داعي لأن تؤكّد لنا وثائق ويكيليكس، المسرّبة من رسائل بريد إلكتروني، وتشير إلى دعم موظّفي شركة إنتاج سينمائية أميركية الحربَ الصهيونية الاسرائيلية على غزّة عام 2014، التي وقع ضحيتها مئات، وشرّدت آلافاً، بل هناك شركات تعمل مباشرة في الإنتاج السينمائي المدافع عن الفكر الصهيوني، وضدّ مقاطعة إسرائيل ثقافياً.
نعم، تمتلك أميركا وإسرائيل أدوات ضخمة للسيطرة على الخطاب الثقافي عبر الإنتاجيْن، الفنّي والإعلامي، إلا أن التحكّم بالشعوب لن يكون سهلاً في ظلّ مقاطعةٍ تتسّع وتنجح، وتطاول المنظومة الثقافية الأميركية كلّها، والأكثر أهمية أن أصواتاً من داخل المنظومة الثقافية نفسها من فنّانين ومؤثّرين عالميين بدأت تتحدّى السردية الأميركية معلنةً تضامنها مع القضية الفلسطينية، رغم محاولات القمع كلّها.
وكما نقول دوماً، الحرب الثقافية لا تعرف الهدنة، فهي تسبق الحروب وترافقها وتظلّ بعدها. واليوم، بينما تستثمر أميركا مواردها في دعم الاحتلال، فإنها تهدم بيدها ما بنته خلال عقود من الهيمنة الثقافية. وسيؤدّي العداء العالمي لحرب الإبادة في غزّة عاجلاً إلى تفكّك وتراجع تأثيرها الثقافي الأسطوري تماماً كما تراجع نفوذها الأخلاقي.