ابراهيم بدوي
لقد اتفق المتنافسون على ثروات الشعوب العربية، وعلى النفوذ العالمي في هذا الإقليم الحيوي من العالم، منذ تقسيم مناطق النفوذ بعد الحرب العالمية الثانية، ما تبع ذلك من تفاهمات وصراعات باردة وساخنة، وتلهيب البؤر بدفع زيادة مبيعات السلاح، وشراء الولاءات، ما مثلته حقبة التسعينيات من سيطرة أميركية كاملة، تبعها السعي الروسي لإعادة نفوذه..
أضحى معلوما للقاصي والداني أن ما يدور في المنطقة من حروب ما هي إلا نماذج مصغرة للحرب العالمية، حيث نلحظ بكافة الجبهات حروبا يقوم بها الحلفاء المحليون بالوكالة والنيابة عن القوى الإقليمية أو العالمية الساعية إلى النفوذ والسيطرة، وإعادة ما يشبه السيطرة الاستعمارية القديمة، لكنها عبر وسطاء محليين، خصوصا وأن منطقتنا ترزح عقودا طويلة من المعاناة من الفقر والجهل والمرض الثلاثي غير المقدس، فهي شعوب لم يخرج منها المحتل إلا وقد وضع بداخلها بذور الانهيار، لدفعها للتخلي عن حلم إقامة دول عصرية تتجه نحو التنمية المستدامة، والارتضاء بالبقاء تحت حكم السلطويين، أو مقصلة الإرهابيين، أو الإعدام الجماعي، بواسطة عملاء الاستعمار في الداخل، أو إرهابه الذي استقدمه من كافة بقاع المعمورة ليضرب به مقدراتنا.
وتتواتر الأدلة التي تؤكد أنها حرب بالوكالة بما لا يدع مجالا للشك، فهناك أنواع من الأسلحة التي تتناسب مع حروب العصابات التي تدور رحاها في تلك الدول، خرجت من مخازن أسلحة الدول الاستعمارية الكبرى أو من حلفائها بشكل يقضي على أي إدانة مصطنعة يحاول بها عملاء تلك الدول نفي دورها القوي في البؤر الحربية الضروس التي تضرب بمقدرات المنطقة؛ فحديث الكرملين الروسي أمس وتأكيده أن منظومات دفاع جوي محمولة يستخدمها المسلحون في سوريا، مشددا على أن وجود تلك الأسلحة في ساحات المعارك يشكل خطرا هائلا على كل الحكومات العالمية. وجاء الحديث الروسي بعد إسقاط طائرة حربية روسية هناك مطلع الأسبوع، حيث قالت وزارة الدفاع الروسية إن الطائرة وهي من طراز سوخوي-25 أُسقطت في محافظة إدلب وقُتل قائدها على الأرض بعد أن قفز بالمظلة من الطائرة. وتساءل ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين في مؤتمر صحفي أمس عن من أمد المسلحين بالمنظومة التي استخدموها لإسقاط الطائرة، مضيفا أن وصول صواريخ كهذه إلى يد “إرهابيين” أمر مقلق للغاية.
إن التساؤل الروسي يعد في طياته إجابة أكثر منه سؤالا، ورسالة تحذيرية أكثر من استفهام، فالفاعل الروسي يريد أن يوضح لمن يتنافسون معه على النفوذ من الدول الإقليمية والدولية، أن دخول هذا المتغير على ساحة المعارك في المنطقة قد يعصف برغبة المستعمرين الجدد جميعهم في بسط سيطرتهم، خصوصا وأن القضاء على تلك الأيدي والعملاء يستلزم تفوقا جويا، قد يكون توفير هذه الأسلحة بيد هؤلاء المسلحين الخطيرين مدخلا لتجذر تواجدهم، وهناك إمكانية أن ينفلت الحبل من بين يدي من يمولونهم ويدربونهم من الوكلاء الخارجيين، وهنا ستظهر كبرى المشاكل؛ لأن هؤلاء سيكونون هم أصحاب النفوذ الحقيقي، ويضطر الكبار إلى خوض الحروب بذاتهم، وما لهذا التدخل المباشر من تبعات ستعود على هؤلاء داخليا وخارجيا، فقتلى المدنيين وتدمير البنى الأساسية سيتحمل جانبه الأخلاقي المباشر أصحاب القرار في الدول الاستعمارية الكبرى، وهذا أهم ما يشكل الحديث الروسي من تحذير مبطن.
لقد اتفق المتنافسون على ثروات الشعوب العربية، وعلى النفوذ العالمي في هذا الإقليم الحيوي من العالم، منذ تقسيم مناطق النفوذ بعد الحرب العالمية الثانية، ما تبع ذلك من تفاهمات وصراعات باردة وساخنة، وتلهيب البؤر بدفع زيادة مبيعات السلاح، وشراء الولاءات، ما مثلته حقبة التسعينيات من سيطرة أميركية كاملة، تبعها السعي الروسي لإعادة نفوذه، اتفق الفرقاء عبر هذا الصراع الطويل على إيجاد وكلاء معتمدين، قد يكون لهم أيدٍ في المناطق المراد التنافس عليها، ولكن بشكل لا يخل بتوازنات القوى العالمية؛ فالوكيل يظل ـ رغم انتمائه لهذا المعسكر أو ذاك ـ له طموح عسكري محدود، لا يستطيع فيه التفوق على من يرعاه من هذا الطرف أو ذاك، وأن تسليح الوكلاء يتم عبر منظومة تضمن التفوق للأسياد والحكام والمتحكمين الأصليين.
باختصار وبعيدا عن التحزب الذي تشهده المنطقة، والذي ندفع ثمنه شعوبا فقط لا غير، ينبغي لنا أن نعي أن صراعاتهم وتوافقاتهم تقوم على أن نرزح تحت سيادتهم ما حيينا، وإن فكرنا أن نكسر هذا الطوق الاستعماري المفروض على منطقتنا المبتلاة، فتسليط أدواتهم من أنظمة قمعية وكيانات إرهابية، هو البديل الذي ينتظرنا، والجديد هو إعطاء الميليشيات والجماعات المسلحة الإرهابية تقنيات أسلحة ستطيل عمر القتال، وستفرغه من محتواه الحالي ـ كصراع من أجل النفوذ كما يراه الأسياد ـ إلى صراع من أجل البقاء، وما له من تبعات دموية. ولعل تنظيم “داعش” ليس ببعيد، فهو تنظيم إرهابي أولده الوكلاء في المنطقة، ومن ثم خرج عن سيطرتهم، وفعل ما فعل من أفاعيل؛ لذا وجب تنويه الروسي لمنافسيه، ليشير لهم إلى طبيعة الصراع وخطورة الخروج عن قواعده.