أصوات الجيل المقبل: مقدّمات تاريخيّة

1

 المصدر: النهار العربي

تعبيرية.

لقد طرحنا على العلماء الشباب هذا السؤال: إذا كان لديك القدرة على اختيار أي عالِمين، بغض النظر عن مكان وزمان حياتهما، فمن ستختار وكيف سيؤثر تعاونهما على مسار التاريخ؟

تطوير الطب

عالمة الكيمياء الحيوية المجرية الأميركية، كاتالين كاريكو، قدمت إسهاماً هاماً في تطوير تقنية حمض نووي ريبوزي رسول (الرنا المرسل)، التي أصبحت أساساً لإنتاج لقاح كوفيد-19. وعالمة الفيروسات الفرنسية، فرانسواز باري سينوسي، اكتشفت فيروس نقص المناعة البشرية لأول مرة (بالاشتراك مع لوك مونتانييه). على الرغم من أن كليهما على قيد الحياة اليوم، ولكنني كنت أود لو تم تعريفهما ببعضهما البعض في عام 1983، عندما اكتشفت “باري سينوسي” فيروس نقص المناعة البشرية لأول مرة، فكان من الممكن أن يؤدي التعاون بين هذين العقلين العظيمين منذ عقود إلى تغيير مسار الأوبئة المتعددة.

عالمة الفيزياء الفرنسية ماري كوري (التي وُلدت في بولندا) فقدت حياتها في عام 1934 بسبب فقر الدم اللاتنسجي الناجم عن التعرض للإشعاع. وعالم المناعة الألماني بول إرليخ، الذي عاش في الوقت نفسه، هو الشخص الذي اكتشف سبب فقر الدم اللاتنسجي. لو قدم هؤلاء العالمين معاً في الوقت المناسب، ربما كان بإمكانهما توعية العالم بتأثيرات الإشعاع السلبية والعمل سوياً على إيجاد علاج لفقر الدم اللاتنسجي.

إذا تمكنوا من التعاون، فقد كان بإمكانهما تجنب وفاة ماري كوري وتقديم مساهمة مشتركة في فهم التأثيرات الضارة للإشعاع وتطوير علاج لمشكلة فقر الدم اللاتنسجي.

يُقال إن سانتياغو رامون إي كاخال، الذي وُلد في إسبانيا عام 1852، كان بارعاً للغاية، لدرجة أنه ببساطة من خلال النظر عبر المجاهر في أوائل القرن العشرين، كان قادراً على استشراف دور خلايا عصبية معينة. ماذا لو تمكن “كاخال” من لقاء أحد رواد اليوم في مجال تقاطع التكنولوجيا وعلم الأعصاب؟ تتضمن التطورات الأخيرة التي حققها عالم الأعصاب الفرنسي غريغوار كورتين تطوير واجهة متكاملة بين الدماغ والحاسوب لاستعادة القدرة على المشي بعد إصابة النخاع الشوكي. بالنظر إلى أن اكتشافات “كاخال” كانت محدودة فقط بالأدوات المتاحة له في زمانه، إذا تمكن من العمل مع باحث قادر على دفع التكنولوجيا إلى الأمام، يمكن أن يؤدي ذلك إلى تقديم حل لمشكلات كبيرة في علم الأعصاب وتطوير تطبيقات متقدمة في هذا المجال.

التعاون بين “هوا توه”، الجراح الصيني في القرن الثاني، و”ليوناردو دا فينشي”، المهندس المعماري وعالم التشريح الإيطالي في القرن الخامس عشر، من شأنه أن يجمع بين الحكمة الطبية الصينية القديمة والتألق الفني في عصر النهضة. لكان استطاع “هوا توه” نقل جوهر الطب الصيني التقليدي، بما في ذلك الوخز بالإبر والعلاجات العشبية، إلى “دافنشي”، ما سمح له بتصوير جسم الإنسان بطريقة أكثر شمولية. وبدوره يمكن لدراسات “ليوناردو” التشريحية الدقيقة والأساليب العلمية المبتكرة أن تُحدث ثورة في ممارسة “هوا تو” الطبية، ما يعزز التقنيات الجراحية والتشخيصات. ربما كان تعاونهم قد أشعل فتيل نهج شامل للرعاية الصحية يمزج بين الحكمة الشرقية والغربية ويغير كيفية فهم الجسم البشري وعلاجه وتصويره.

كان من الممكن أن يعمل “ليوناردو دافنشي”، الرسام والمهندس والمعماري والمخترع الإيطالي في القرن الخامس عشر، و”ريتشارد فاينمان”، عالم الفيزياء النظرية الأميركي في القرن العشرين، معاً لإحداث ثورة في التكنولوجيا الطبية. وتشمل اختراعات دافنشي “روبوت ليوناردو”، وهو إنسان آلي وظيفي، والذي ربما كان بمثابة مصدر إلهام للأنظمة الجراحية الروبوتية المستخدمة على نطاق واسع اليوم. فلو كان “دافنشي” قد التقى بـ”ريتشارد فاينمان”، أبو تكنولوجيا النانو، فربما كان بإمكانهما إنشاء “روبوت ليوناردو النانوي”، وهو آلة صغيرة تستخدم لإزالة البكتيريا والفيروسات، وإصلاح الأوعية الدموية، وقتل الخلايا السرطانية بدقة في الجسم الحي.

اكتشف عالم الأحياء الدقيقة الألماني “روبرت كوخ”، الذي وُلد عام 1843، الميكروبات المسببة للجمرة الخبيثة والسُل وكان رائداً في علم الجراثيم. واكتشف الطبيب الإسكتلندي “ألكسندر فليمنغ”، الذي وُلد عام 1881، البنسلين، وهو أول مضاد حيوي متعدد الأغراض. لو عمل هذان الباحثان معاً، لكان بإمكانهما تحقيق تقدم كبير في موضوعات مثل سمات مسببات الأمراض، وآليات انتقال العدوى، واستجابات المضادات الحيوية، ما يؤدي إلى فهم أفضل للأمراض المعدية ومضادات حيوية أكثر فعالية.

في القرن السابع عشر، قام عالم الفيزياء الإنكليزي روبرت هوك بتطوير أول مجهر. وكان من شأن هذه الأداة أن تمكن عالم التشريح اليوناني القديم “هيروفيلوس”، الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد، من توسيع دراساته إلى ما هو أبعد من الاستكشافات المجهرية لجسم الإنسان. فبعدما وصف شبكية العين والعصب البصري، كان من الممكن أن يمكّن مجهر “هوك هيروفيلوس” من اكتشاف، على سبيل المثال، أنواع الخلايا العديدة التي تتكون منها هذه الهياكل. كان من شأن اعتناق هيروفيلوس للمنهج العلمي والتجريب أن يؤدي إلى خطوات هائلة في إزالة الغموض عن الجسم البشري ووظائفه. فبدلاً من انتقادها في ذلك الوقت باعتبارها مسعى عديم الفائدة، لازدهرت دراسة علم التشريح، ما أدى إلى تحول جذري في مجال الطب وصحة الإنسان.

التكنولوجيا المتقدمة

“ليوناردو دافينشي”، العالم الإيطالي في القرن الخامس عشر المعروف ببراعته الهندسية والمعمارية والفنية، و”نيكولا تيسلا”، مهندس كهربائي وميكانيكي صربي الذي وُلد عام 1856 في جزء من الإمبراطورية النمساوية الذي تُعرف الآن بكرواتيا، كانا يمتلكان معرفة ومهارات ورؤى تكميلية. ربما كان فهم تسلا للكهرباء هو المفتاح لجعل تصميمات دافنشي المتطورة ممكنة التنفيذ. وعلى العكس من ذلك، كان من الممكن أن تكون مجموعة دافنشي المتنوعة من التصاميم الإبداعية قد ألهمت تسلا لتطبيق خبرته في مجال الكهرباء في مجالات أخرى. ولو تعاون الاثنان، لربما تم اختراع المروحيات والغواصات في وقت مبكر، ما أدى إلى تغيير مسار التاريخ.

آدا لوفلايس، التي وُلدت في إنكلترا عام 1815، اشتهرت بمساهماتها في ميدان علوم الحاسوب المبكرة وتعتبر أول مبرمجة كمبيوتر في التاريخ بفضل عملها المميز مع المحرك التحليلي لتشارلز باباج، وهو حاسوب ميكانيكي متعدد الاستخدامات. وفي القرن العشرين، وُلد آلان تورينج في إنكلترا، واشتهر بمساهماته في علوم الحاسوب والرياضيات والتشفير، ويُحتفى به لدوره في تقديم مساهمات هامة في مجال الحوسبة المبكرة والذكاء الاصطناعي والتشفير خلال الحرب العالمية الثانية.

إذا تمكن هذان العالمان من التعاون، فقد يكون ذلك قد أسهم في تسريع عملية تطوير أجهزة الحاسوب وتطوير الخوارزميات في وقت مبكر من تاريخ الحاسوب. ومن الممكن أن تكون أجهزة الحاسوب القابلة للبرمجة في القرن التاسع عشر قد أعادت تشكيل الاتصالات والتشفير والأتمتة، ما قد أثر إيجاباً على الأحداث التاريخية والتطور التكنولوجي.

جيفري هينتون”، عالم معرفي وعالم حاسوب بريطاني كندي معاصر، هو رائد في مجال الذكاء الاصطناعي. إن استخدام الذكاء الاصطناعي يتزايد، ولكن بسبب العلاقات الرياضية المعقدة التي يعتمد عليها، تظل أعماله الداخلية بمثابة صندوق أسود إلى حد كبير. وكان “سرينيفاسا رامانوجان”، عالم الرياضيات الهندي الذي عاش في مطلع القرن العشرين، يمتلك قدرة خارقة على اختراع أدوات رياضية لصياغة مشكلات العالم الحقيقي الصعبة. فإذا تعاونا معاً، فإن مهارة “رامانوجان” يمكن أن تسلط الضوء على الارتباطات المتشابكة داخل الشبكات العصبية للذكاء الاصطناعي. وفي الوقت نفسه، ستكون خبرة “هينتون” الواسعة في بناء خوارزميات وأنظمة الذكاء الاصطناعي أمراً حيوياً لتنفيذ نظريات “رامانوجان” الرياضية، باعتبارها ذكاءً اصطناعياً معززاً. فمعاً، يمكن لتألق “رامانوجان” الفريد في صياغة الرياضيات المجردة وإبداع “هينتون” التقني أن يكشفا الجوهر الغامض للذكاء الاصطناعي. وقد يؤدي تعاونهما إلى إنتاج ذكاء اصطناعي أكثر قابلية للتفسير والتحكم وجدير بالثقة ومتوافقاً مع القيم والأخلاق الإنسانية.

تحقيق قدر أكبر من المساواة

إذا تم تقديم العالم الإنكليزي في مجال الطبيعة، تشارلز داروين، الذي عاش في القرن التاسع عشر، وعالمة النفس البرازيلية المعاصرة، ديزي داس جراكاس دي سوزا، التي استكشفت كيفية تأثير أنماط السلوك على مهارات القراءة والكتابة، فسيكون له تأثير كبير. سيجمع بين نظرية داروين للتطور ودراسة تطور السلوك، حيث يسلط الضوء على دور البيئة. فيما اعتمد داروين على فكرة تكيف الأنواع عبر الأجيال، تركز دي سوزا على كيفية تغيير سلوك الفرد نتيجة لتأثيرات البيئة.

إذا تم دمج مبادئ التطور الداروينية مع خبرة دي سوزا في مجال التعلم، فإن ذلك قد يؤدي إلى ثورة في فهمنا لكيفية تنظيم البيئة لتعزيز عمليات التعلم وتحقيق التغيير الإيجابي على الصعيدين الفردي والثقافي.

إذا تم تقديم العالم الأميركي في علم الفيروسات، جوناس سالك، الذي قام بتطوير لقاح شلل الأطفال في القرن العشرين، والذهن العبقري وراء هذا الإنجاز، والطبيب الراحل بول فارمر، الذي كان عالماً في الأنثروبولوجيا الطبية وكرس حياته لمعالجة التفاوت في الرعاية الصحية، فذلك سيفتح أبواب التعاون والتقدم. قرار سالك غير الأناني بعدم تسجيل براءة اختراع للقاحه يتوافق مع التزام فارمر الثابت بتوفير الرعاية الصحية بشكل عادل ومتساوٍ.

بالجمع بين إنجازات سالك والرؤية الاجتماعية لفارمر في مجال الرعاية الصحية، سيؤدي ذلك إلى ثورة في نهجنا لمواجهة الأوبئة وضمان الصحة العالمية للجميع. سيتعلم سالك عن العوامل الاجتماعية المعقدة التي تؤثر على الوصول إلى الرعاية الصحية من تجربة فارمر، وبالمقابل، سيكتسب فارمر رؤية ثاقبة حول التطورات العلمية المتقدمة من سالك. إن رؤيتهم المشتركة ستلهم تغييراً نموذجياً في العمل الصحي، مع التركيز على الجانب الإنساني أكثر من الربح، وضمان أن العلاجات المنقذة للحياة والإجراءات الوقائية متاحة للجميع، بغض النظر عن خلفياتهم.

“أبو علي الحسن بن الهيثم”، المعروف أيضاً باسم “الحسن”، كان عالماً في مجالي الرياضيات والبصريات في القرن العاشر، وعاش في منطقة تُعرف اليوم بالعراق. إذا تم تقديمه للعالم الإنكليزي في ميدان الفيزياء، السير “إسحاق نيوتن” في القرن السابع عشر، لوجدنا أن هذا اللقاء قد كان له تأثير كبير. إذ قد يساعد على تبادل المعرفة والأفكار بين جزءين مختلفين تماماً من العالم، ما يمكن أن يؤدي إلى اكتشافات ثورية في مجال الضوء والبصريات.

والأهم من ذلك، هو أن هذا الاجتماع من شأنه أن يعزز التبادل الثقافي بين بعض من ألمع العقول في العالم الإسلامي والعالم الغربي. يساهم في إبراز مساهمات العلماء المسلمين في التراث الفكري العالمي. إن الإرث الغني للعصور الوسطى الإسلامية، الذي يُشار إليه في الغرب غالباً بأنه “العصور المظلمة”، يغيب عن الواجهة الكثير من الأحيان في السرد التاريخي الغربي. لذلك، يمكن أن يكون هذا اللقاء هو البداية لمزيد من التبادل العلمي بين الثقافات وزيادة التقدير المتبادل للإرث الفكري.

ماذا كان ليحدث لو أن جاء التحذير العلني الأول بأن تغير المناخ يشكل تحدياً وجودياً للبشرية قبل تصريحات إدوارد تيلر في عام 1959؟

 كان من الممكن أن يؤدي التعاون بين عالم الكيمياء الفيزيائية السويدي “سفانتي أرهينيوس”، الذي وُلد في عام 1859، وعالم الأرصاد الجوية الأميركي المعاصر “سيوكورو مانابي”، إلى نموذج فيزيائي سابق لنظام مناخ الأرض سمح لهما بقياس تأثير تغير المناخ الناتج عن النشاط البشري. 

وربما كان التحذير من أزمة المناخ في بداية القرن العشرين قد أعطى البشرية وقتاً لا يقدر بثمن للانتقال من أنظمة الطاقة القائمة على الوقود الأحفوري إلى أنظمة الطاقة الخالية من الانبعاثات. وربما كان هذا التعاون العلمي قد قلل من احتمالية التعرض لعواقب كارثية لتغير المناخ.

كان من الممكن أن يتعاون “ديفيد هارولد بلاكويل”، عالم الإحصاء والرياضيات الأميركي الذي وُلد في عام 1919، و”جورج واشنطن كارفر”، العالم الزراعي الأميركي الذي وُلد حوالي عام 1864، من أجل زيادة الأمن الغذائي. ومن شأن نظرية “بلاكويل” الرياضية أن تساعد “كارفر” على دراسة المواد الوراثية وخصائص المحاصيل بشكل أكثر دقة، وذلك لإنتاج محاصيل تلبي احتياجات الناس وتحسين أساليب الزراعة. فيمكن لبيانات وخبرة “كارفر” في مجال الإنتاج الزراعي أن توفر مواد عملية قيمة لأبحاث “بلاكويل” حول الإحصائيات وصنع القرار.

إذا تخيلنا أن عالم المناعة الإنكليزي “إدوارد جينر” عاش في القرن الثامن عشر، ما يقرب من 1600 عام قبل وقتنا الحالي، وقام بزيارة معبد الشفاء “أسكلبيون” في مدينة بيرغامون اليونانية القديمة، فإننا نجد أن العالِم “جالينوس” لم يلاحظ وجوده. ذلك لأن جالينوس كان منشغلاً بنظريته حول الأخلاط الأربعة وأبحاثه في تشريح قرود المكاك البربرية، ولم يكن لديه اهتمام بفهم الأمراض المعدية المنتشرة بين البشر.

ومع ذلك، في عام 166 بعد الميلاد، قام جينر باستخدام عيَّار الجدري البقري لتطعيم صبي صغير ضد الجدري الإنساني. وباشتراك جالينوس، العالِم الكبير والمعلم، سجل جينر الطريقة في إحدى رسائله الطبية. تم نسخ مقالة جالينوس وانتشارها، ما أسهم في القضاء على وباء الجدري بحلول عام 300 ميلادية، وذلك بعد مرور 17 قرناً قبل عام 1980.

في القرون التالية، مع انتشار المستوطنين غرباً واندلاع الحروب، لم تكن هناك أمراض جديدة تهدد السكان الأصليين لأميركا. وبفضل ذلك، كانت القبائل الأميركية الأصلية، بكامل قوتها وعدم تعرضها لأمراض جديدة، قادرة على صد الغزاة.

بهذه الطريقة، لم تتأسس الولايات المتحدة كما نعرفها اليوم، ولم تُكتب هذه المجلة أبداً، ولم يُطرح هذا السؤال الذي نطرحه الآن أبداً. لكننا ندرك أن هذا الاكتشاف ساهم في إنقاذ ملايين الأرواح عبر التاريخ.

التعليقات معطلة.