عبد الرحمن شلقم
وزير خارجية ليبيا ومندوب السابق لدى الأمم المتحدة الأسبق، وهو حصل على ليسانس الصحافة عام 1973 من جامعة القاهرة،وشغل منصب رئيس تحرير صحيفة «الفجر الجديد»، ورئيس تحرير صحيفتَي «الأسبوع السياسي» و«الأسبوع الثقافي». كان أمين الإعلام وأمين الشؤون الخارجية في «مؤتمر الشعب العام». وسفير سابق لليبيا لدى إيطاليا. رئيس «الشركة الليبية – الإيطالية». مدير «الأكاديمية الليبية» في روما.
جاري الطبيب الإيطالي العجوز المتقاعد، شخصية محافظة في كل شيء. كل صباح يجلس على كرسيه في المقهى القديم. فنجان الكابوتشينو وقطعة الكورنيتو، وصحيفة «الكورييري ديلا سيرا»، تزين صباح طاولته.
السياسة في إيطاليا هي مِلح الحياة وسكرها والجيلاتو والبيتزا والسباغيتي. إن غبت يوماً عن جلسة الفطور في المقهى، الذي يجمع المتقاعدين وبعض الشباب، يبادرني السنيور جوفاني بالقول، أينك أيها الليبي؟ عندما يلج العجوز الثمانيني أبواب التاريخ والسياسة والدين، يتحول شاباً ثلاثينياً متوهجاً، وكأنه مكتبة ناطقة بصوت يجلجل. فوجئت في صباح ربيعي، بهجومه الكاسح على رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، وبالَغ في كيل عبارات النقد لها.
هو من حزب أخوة إيطاليا الذي تنتمي إليه وتقوده ميلوني. قلت له لا أفهم هجومك على رئيستك التي كنت متحمساً لها في حملة الانتخابات، وصوّتَّ لها، وكنت من أكبر المتحمسين لها. نظر إليّ بعينين تنطقان استغراباً وقال: أيها العزيز، كل ما في الأمر أنني وضعت في صندوق حزبها ورقتي الانتخابية، ولم أضع فيه عقلي. عقلي ليس ورقة ألقيها في أي صندوق، بل هو ملكي الذي يسكن رأسي، أما صناديق الانتخابات السياسية، فهي مجرد إناء من خشب أو بلاستيك، نلقي فيه أوراقاً تؤيد كياناً سياسياً، نرى في برامجه بعضاً مما نأمله.
الاختلاف في الرأي بين البشر، قوة تحرك الحياة، ويبدع ما تحتاج إليه من أفكار وصناعة وتشريع. بعد الحرب العالمية الثانية، تأسس النظام الجمهوري، ولعب الحزبان الكبيران الديموقراطي المسيحي والشيوعي، الدور السياسي الأهم في تكريس الوحدة الوطنية، وترسيخ الديموقراطية.
الحزب الشيوعي لم يدخل أي حكومة، لكنه لعب دور التوازن الوطني، والدفاع عن حقوق العمال ومصالحهم، عبر النقابات والصحافة والبرلمان. الطبقة العاملة في أوروبا الغربية الرأسمالية، استفادت أكثر بكثير مما استفاد العمال في الدول الشيوعية. من أجل مقاومة زحف المشروع الشيوعي، القادم من الشرق، يعد بتحقيق العدالة الكاملة للطبقة العاملة، من أجل ذلك، أصدرت دول أوروبا الغربية الرأسمالية، عشرات التشريعات التي تحقق قدراً كبيراً من العدالة للطبقة العاملة. تخفيض ساعات العمل، والتأمين الشامل على الحياة والعلاج المجاني ومرتبات التقاعد المريحة.
السنة صارت تعد 13 شهراً للعمال في رواتبهم وأجورهم، والمرأة العاملة لها معاملة خاصة عند الحمل والولادة، في حين كان العمال في أوروبا الشيوعية، يعانون الفقر والاستغلال الحكومي وسوء السكن والمعاملة الصحية. حرية الرأي وسيادة القانون، والتداول السلمي على السلطة، والتعددية السياسية، التي وجدت فيها الأحزاب الشيوعية، في الدول الغربية فرصتها الكاملة في التعبير، والعمل النقابي، والتأثير القوي في الحياة السياسية. كل ذلك طرح أسئلة قاعدية شكّلت زلزالاً فكرياً وسياسياً، هزَّ أوروبا شرقاً وغرباً، بل امتد تأثيره إلى كل القارات. كانت الخاتمة زوال الشيوعية فكراً وسياسة، وانهارت كل الأنظمة القائمة عليها في سنوات قليلة.
في الأشهر القليلة الماضية، نزلت في المكتبات الإيطالية، الطبعة الخامسة من كتاب «أنريكو برلينغوير» للكاتبة والمؤرخة كيارا فالنتيني. تناولت الكاتبة تاريخ الزعيم الشيوعي الإيطالي الأبرز. وتوسعت في عرض وتحليل سيرته الفكرية والسياسية.
محطات عدّة لعب فيها برلينغوير دوراً سياسياً كبيراً، في إيطاليا وخارجها. ما ميَّز هذا الزعيم السياسي، قدرته الدائمة على الاشتباك مع مجريات الحياة في كل جوابها، والجرأة على التصريح بما يؤمن به، وكثيراً ما كان ذلك يصدم القريب والبعيد من الرفاق الماركسيين وغيرهم. قال وهو يتحدث عن بداياته الفكرية: مذ كنت شاباً، كان لديّ شعور بالتمرد، أعترض على كل شيء. قرأت أعمال باكونين، وشعرت بأنني صرت فوضوياً. لقد سكنه التمرد، الذي يعيد إنتاجه فكرياً وسياسياً من دون توقف. في العقد السابع من القرن الماضي، شهدت أوروبا ومناطق أخرى من العالم مخاضاً غير مسبوق، الحروب الساخنة والباردة، وظاهرة تمرد الشباب، والتسلط السوفياتي على الدول الشيوعية التي تدور في فلكه، ومعاناة الطبقات العاملة في هذه الدول.
رأى برلينغوير في ذلك نذيراً بقادم مخيف. ذهب إلى موسكو وتحدث مع قادة الحزب الشيوعي، وقدم لقادة الكرملين رؤيته الواسعة والعميقة، للشيوعية فكراً ونظاماً، وحذّر من حساسية الوضع، بل خطورته. اختلف معهم وعاد غاضباً. منذ بداية ستينات القرن الماضي، كان سادة الكرملين، بمن فيهم ليونيد بريجينيف، وبونا مارييف وسوسولوف وكيرلنكو، يرون ضرورة إعادة النظر في هذا الإيطالي العنيد، القادم من أصول برجوازية.
زار برلينغوير بلغاريا والتقى زعيمها أمين الحزب الشيوعي تيودور جيفكوف ومساعديه، وعبّر لهم عن رؤيته للقادم الأوروبي والعالمي. ولم يتفاعلوا مع ما قاله. في سنة 1973 بمناسبة الاحتفال بيوم صحيفة «الوحدة» الشيوعية بمدينة تورينو، حضر المبعوث السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف وزوجته راييسا. في ذلك الوقت كان غورباتشوف، أميناً لفرع الحزب الشيوعي بمنطقة ستافاروبول. لم تظهر على وجهه الكآبة المعتادة على وجوه الشيوعيين الروس. كانت زوجته تسأل عن تفاصيل الحياة في إيطاليا. غورباتشوف قال لبرلينغوير، لقد صدمتنا بما قلته في موسكو؛ إذ لم نسمع مثل ذلك الكلام من قبل أبداً في موسكو. ظلَّ غورباتشوف ينظر مطولاً لبرلينغوير. في المؤتمر الخامس والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، تحدث أمين الحزب ليونيد بريجينيف مطولاً، أمام آلاف المدعوين من أعضاء الحزب الشيوعي السوفياتي، وأمناء الأحزاب الشيوعية من مختلف أنحاء العالم، بمن فيهم الأحزاب الأوروبية الغربية. عندما أُعطيت الكلمة لإنريكو برلينغوير، قال أمام خمسة آلاف من الحاضرين: إن الشيوعية في الدول الأوروبية، لم تنشأ نتيجة للانتهازية، لكنها تأسست على معطيات موضوعية أنتجها المجتمع الصناعي. وكانت ضرورة اشتراكية، وقامت في مجتمعات ديموقراطية تعددية. وراوغ المترجم اللغة. بعد ذلك برر المترجم ذلك، بأن ما سمعه لا يوجد مقابل له في اللغة الروسية!. وأضاف برلينغوير في كلمة، لا بد من الانفتاح والحرية. تناقلت وسائل الاعلام العالمية كلمة أمين الحزب الشيوعي الإيطالي، وعندما التقى برلينغوير على انفراد مع بريجينيف قال له: لما تضايقون على زاخاروف، دعوه يتحدث، لا بد من الحرية.
أطلق برلينغوير مقولة «الشيوعية الأوروبية، اليورو كومونيزم»، ونشط مع زعماء الأحزاب الشيوعية الفرنسية والبرتغالية والإسبانية، ترويجاً لهذه المقولة. بدأ برلينغوير العمل مع الدو مورو زعيم الحزب الديموقراطي المسيحي الإيطالي، في ما عرف بالمبادرة التاريخية، وشرعا في العمل من أجل حكومة وحدة وطنية يدعمها الحزب الشيوعي. عارضت واشنطن وموسكو تلك المبادرة. سنة 1978 قُتل الدو مورو، بيد الألوية الحمراء الإيطالية. قيل الكثير عن من كان وراء تلك العملية. السؤال، لو استوعب بريجينيف ما قاله برلينغوير، هل كان يمكن إنقاذ الاتحاد السوفياتي من الانهيار؟ الآيديولوجيا تعميها الأنوار.