سام منسى
ندر أن شهدت المنطقة حراكاً دبلوماسياً باتجاهاتٍ تسوَوِيَّة توافقية كما هي الحال الآن، أقله منذ الألفية الثانية. تركيا تعيد وصل ما انقطع مع كثير من الدول، قطر ومصر ودول الخليج تسعى لاحتواء سوريا، السعودية وإيران اتفقتا برعاية الصين وضمانتها على عودة العلاقات الدبلوماسية بينهما، وإحياء الاتفاقات الثنائية السابقة، وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، هذا دون أن ننسى موجة التطبيع مع إسرائيل، ولو أنها جاءت في سياق مختلف.
الاستثناء الوحيد الذي يسير عكس السير وبقي بمنأى عن رياح التوافق هذه هو لبنان. فالبلد الصغير يعيش أسرع تفكك درامي شهده منذ بدايات المحطة الأخيرة من أزماته عام 2019، المحنة تواصل تفاقمها، وبات البلد قاب قوسين من الدخول إلى نادي الدول الفاشلة، أو لعله بات في عدادها. التهاوي الجنوني لسعر الصرف قضى على العملة الوطنية، أزمة المصارف وضياع أموال المودعين استفحلت، وانهيار المؤسسات والإدارات العامة بلغ دركاً تصعب معه إعادة بنائها. شلل قطاعي كامل حكومي وإداري ومالي وتربوي وصحي، إلى أزمة نازحين متعاظمة، بينما المنظومة الحاكمة تتصرف وكأنها تعيش على كوكب آخر وحتى ضمن نظام شمسي مختلف.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: لماذا لم تظهر أي ملامح لوصول الرياح التسووية إلى بيروت؟ علماً بأنه اصطلح على اعتبار السياسة فيها مرآة لما يجري حولها، وغالباً ما انتقلت إليها الخلافات والنزاعات الإقليمية حتى وصفت الحرب الأهلية التي ضربت البلاد عام 1975 بأنها حرب الآخرين على أرض لبنان.
إن مراجعة شريط الأزمات اللبنانية السياسية منها أو الأمنية في أعوام 1958 و1969 و1975 وغيرها، ترينا طغيان العوامل الإقليمية في إشعالها، ولو ألبست أثواب نزاعات أهلية بين المسلمين والمسيحيين حول المشاركة في السلطة، وإصلاح النظام السياسي، وغيرها من القضايا. تبلورت أهمية العوامل الإقليمية في أزمات لبنان زمن الاحتلال الإسرائيلي والوصاية السورية وبعدها الهيمنة الإيرانية. ومنذ الزلزال السياسي العربي الإقليمي باغتيال الرئيس رفيق الحريري سنة 2005 وحتى اليوم، ما يُسيّر الخلاف حول جميع القضايا هو النزاع على موقعه الجيوستراتيجي، بمعنى: إلى أي محور ينتمي لبنان: المحور الغربي أو الشرقي، المحور العربي – الخليجي أو المحور الإيراني السوري الممانع؟ كل فريق يتهم الآخر بالتبعية والانصياع إلى راعيه الدولي أو الإقليمي. على مقلب آخر، المواقف الدولية والعربية من لبنان وسلطته الحالية واضحة: لم يعد من مجال للقبول لا بهيمنة «حزب الله» على صناعة القرار بجوانبه كافة، ولا بفساد مستشرٍ من أعلى الهرم إلى أسفله. كل مساعدة للبنان تبدو على الصعيد الأول كمن يطلق الرصاص على رجله وعلى الصعيد الثاني كمن يضع ماء في سلة.
إذا صح هذا التوصيف للحالة اللبنانية والمنطقة تشهد تفاهمات، حتى لا نقول تسويات كبرى أو حلولاً، وإذا صح أن العرب سيحتضنون بشار الأسد، وإيران ستقتنع بضرورة التهدئة مع السعودية وتحترم موجباتها، ماذا يتبقى محلياً من أوجه خلاف عصي بين الأطراف اللبنانية المتنازعة؟ وإذا صح أن عزلة لبنان الدولية والعربية سببها تمحوره الممانع قسراً بسبب هيمنة «حزب الله»، أقوى أذرع إيران في المنطقة، فلماذا التوافق الإقليمي المزمع مع الأصيل لا ينسحب توافقاً مع الوكيل؟
بداية الأطراف الرئيسة هي ثلاثة: القوى المسماة «سيادية»، وغالبيتها من الأحزاب المسيحية الرئيسة، وغالبية القوى السنية رغم تشتتها، وغالبية درزية متأرجحة بين «السياديين» و«الممانعين». هذه القوة تتفق على عناوين عريضة، مثل السيادة وحصرية السلاح، وتحول «حزب الله» إلى قوة سياسية كغيره من الأحزاب. تتنازع هذا الفريق طروحات مختلفة ومشاريع حلول متباينة، تتراوح من تطبيق اتفاق الطائف إلى اللامركزية الموسعة، إلى الفيدرالية وغيرها.
القوة الثانية هي المحور الممانع بقيادة «حزب الله» و«حركة أمل» وبعض الحلفاء من الطوائف الأخرى. وتجدر الإشارة إلى شقوق في هذا المحور جراء الخلافات بين «حزب الله» وحليفه المسيحي «التيار الوطني الحر».
القوة الثالثة عمادها عدد من كبار رجال الأعمال والمصرفيين وبعض من المتمولين، إلى جانب قوى مستقلة أخرى من مثقفين وناشطين سياسيين ليسوا بالضرورة على تفاهم أو توافق كامل. هذه القوة تركز على الإصلاح السياسي والمالي والإداري، وتؤجل البحث في القضايا المتعلقة بسلاح «حزب الله» وأدواره الإقليمية، وهي متفقة على استبعاد رموز المنظومة الحاكمة برمتها دون استثناء. أما القوى الأخرى من تغييريين أو مستقلين، فإن تأثيرهم محدود، لا سيما بعد خمود الانتفاضة الشعبية بالزخم الذي اتسمت به سنة 2019.
ما مدى تأثر هذه القوى بخاصة، ولبنان بعامة، بنتائج الاتفاق السعودي- الإيراني، دون مبالغات أو أوهام أو تمنيات؟
الإجابة مرتبطة بمسار تنفيذ الاتفاق السعودي- الإيراني واستشراف تداعياته. الأمور تشي بأن البلدين على سكة التطبيع، وقد أعلن الأسبوع الفائت عن اجتماع قريب لوزيرَي الخارجية يعيد فتح السفارات بينهما. إنما عودة العلاقات الدبلوماسية لا تعني نزع فتيل الأزمات كلها، ومن الصعب أن يصل الطرفان إلى مجموعة تفاهمات دفعة واحدة، بل سنشهد تدرجاً بالأولويات يؤدي إلى ما يشبه الإدارة العقلانية لساحات النزاع، أكثر منه إلى علاقات دافئة، ترضي أولويات المتفقين والراعي الصيني الهادف إلى تثبيت الاستقرار السياسي والأمني حماية لمصالحه الاقتصادية.
بالمباشر، السعودية باقية وإيران باقية، ولكل منهما سياساته ورؤياه. المملكة لم تتغير، وتبقى أولوياتها وقف الاعتداءات على أراضيها، لا سيما من اليمن أو العراق، وعدم العبث بأمنها الداخلي، ومعالجة مقبولة لحرب اليمن، وقضية تهريب المخدرات والكبتاغون إلى أراضيها، ولن تساوم على أمن دول الخليج. أعادت السعودية التموضع سياسياً في ظروف إقليمية ودولية أقل ما يقال فيها إنها شديدة التعقيد، ويخطئ من يعتقد أن الرياض تنازلت لطهران. بالمقابل لن تفرط إيران في مكتسبات حققتها على مدى أربعين سنة في لبنان والعراق، بل في سوريا أيضاً، وسنرى إن كان الاتفاق انعطافة استراتيجية في سياستها. يضاف إلى ذلك اعتماد نجاح الاتفاق على دور صيني جديد لم تعهده المنطقة من قبل، وسيبقى إلى أجل ليس بقريب تحت الاختبار.في هذا السياق، أرى أن المملكة لن تدعم معنوياً ومادياً حكماً في لبنان يسيّره «حزب الله»، كما لن تتخلى إيران في المدى القريب عن استراتيجية الأذرع المحلية، خصوصاً «حزب الله» كأداة أمنية وسياسية عابرة للحدود اللبنانية نحو أدوار إقليمية ودولية. وكما سئمت السعودية وغيرها من الدول من «الدلع اللبناني» وضعف القوى التي دعموها، ولن يطالبوا برئيس فاقع، قد تعمد إيران إلى نزع طبقة من جلدها عبر تغليف طموحاتها. وما يرجح ذلك أمران، الأول بدء الحزب بتأمين مداخيل ذاتية عبر اقتصاد موازٍ تخفف كثيراً من أعباء إيران تجاهه، والثاني هو عدم رغبته الحكم المباشر في لبنان، لأن ذلك لن يسمح له بمتابعة أدواره ومهماته العابرة للدولة من جهة، وسيمنعه من التنصل من تحمل مسؤولية الحكم في مرحلة صعبة سياسياً واقتصادياً. سيترك لحلفائه إدارة شؤون البلد بينما يقودها هو من الخلف.
في المحصلة، لا نعرف ما سيقدمه الاتفاق السعودي الإيراني للبنان من حلول. الشيء الوحيد المتاح يكمن في قدرة اللبنانيين على الإفادة من أجواء التهدئة الإقليمية للوصول إلى توازن مع «حزب الله» يعيد لبنان إلى شاشة رادار الاهتمامات العربية والدولية. لن يحك جلد لبنان إلا اللبنانيون، ومهما بلغت قوة «حزب الله» يبقى الأقوى بين ضعفاء.