أكراد العراق يزنون خياراتهم لتحقيق التوازن بين الولايات المتحدة وإيران

1

ديفيد بولوك
ديفيد بولوك زميل أقدم في معهد واشنطن يركز على الحراك السياسي في بلدان الشرق الأوسط.
 
 
كشفت إحدى زياراتي إلى كردستان العراق في الأسبوع الماضي، وهي الأولى منذ إجراء الاستفتاء الذي أخفق حول الاستقلال هناك في تشرين الأول/أكتوبر 2017، مشهدًا سياسيًّا مختلفًا تمامًا ومألوفًا بشكلٍ مخيف في الوقت نفسه. فتشمل الفئة الأولى الفهم الجديد والواسع الانتشار – بين القادة الذين التقيتُهم وبين أتباعهم الأصغر في الأوساط التجارية والأكاديمية والإعلامية في آن – أن الاستقلال الكردي هو مطمحٌ طويل المدى، وليس خيارًا سياسيًّا واقعيًّا على المدى القريب. وإلى جانب ذلك، تتراجع بشدة المحاولات الرامية إلى التدخل أكثر فأكثر في المسائل الكردية في أيٍ من البلدان المجاورة خلف الحدود العراقية – أي في سوريا أو تركيا أو إيران.
 
أما القاسم المشترك هنا هو التوجه الملحوظ نحو طموحات سياسية أكثر تواضعًا وربما أكثر واقعية، سواء داخل العراق أو خارجه. كما يعني ذلك اتخاذ خطوةٍ تتسم بالمزيد من الاستعداد لإيجاد تسويات عملية مع الحكومة المركزية في بغداد. وتمتد الآن الواقعية المُكتشَفة حديثًا التي أظهرها من حاورتُه من الأكراد إلى مسائل عسيرة تتراوح من تقاسم الإيرادات إلى مراقبة الحدود والتعاون الأمني على طول خط الحدود الذي استعادته حديثًا الأراضي المتمتعة بالحكم الذاتي مع باقي العراق. كما تمتد هذه الواقعية إلى نوعٍ من التنازل عن الوضع المستقبلي لمدينة كركوك النفطية الأساسية المتنازع عليها، التي أخذها الأكراد من تنظيم “الدولة الإسلامية” في سنة 2014، حتى يخسروها لصالح الجيش العراقي والميليشات المدعومة من إيران (“الحشد الشعبي”) فورًا عقب الاستفتاء.
 
في هذا الصدد، ما يختلف بشكلٍ ملحوظ عن زياراتي السابقة هو الإحساس الكردي الأكثر حدّةً بأن إيران ووكلاءها ربما يشكّلون خطرًا مباشرًا. فقد أظهر استيلاؤهم على كركوك بشكلٍ صارخ كم يمكنهم أن يتسببوا بأذية الأكراد العراقيين؛ وبحسب عبارات أحد أهم كبار المسؤولين في “حكومة إقليم كردستان” الذين التقيتهم بصورة شخصية في هذه الزيارة، “لا أحد يمكنه أن يوقفهم”. وغالبًا ما ذكّرني أكرادٌ محلّيّون آخرون كيف أن إيران في السنتيْن الماضيتين هاجمت بشكلٍ دوري المنفيين الأكراد داخل أعماق كردستان العراق، بواسطة الصواريخ أو فرق الاغتيال أو فرق الخطف.
 
تنشط إيران أيضًا أكثر فأكثر في السعي إلى زيادة انخراطها ونفوذها داخل كردستان، ليس فحسب بين من اعتادت أن تحميهم قرب الحدود المشتركة، بل أيضًا في العاصمة إربيل وفي صفوف “الحزب الديمقراطي الكردستاني” الذي كان سابقًا أكثر تحفّظًا والمتمركز هناك. فيقوم قاسم سليماني بحسب التقارير، وهو قائد “فيلق القدس” التابع “للحرس الثوري الإيراني” في إيران وشخصية نافذة أساسية خلف المشاهد التي تجري في العراق، بزياراتٍ إلى إربيل يساوي عددها تقريبًا عدد زياراته إلى بغداد هذه الأيام، وهي زياراتٌ لا يُعلَن عنها لكنها تلقى ترحيبًا يكاد أن يكون بعظمة وجلال في العاصمتين على حد سواء.
 
كما يمارَس جزءٌ كبيرٌ من مجمل نفوذ إيران السياسي والاقتصادي والأمني في كردستان بعيدًا عن الأضواء، وليس عبر القنوات الرسمية العلنية. فعلى سبيل المثال، جاء كبار المسؤولين أو الخبراء الذين قدّموا عروضًا في مؤتمر “منتدى سولاي” الرفيع المستوى الذي حضرتُه في 6-7 آذار/مارس ليس من بغداد فحسب، بل أيضًا من عدة بلدانٍ أخرى: فشملوا عربًا وأتراكًا وأمريكيين وأوروبيين وروسيين وغيرهم. لكن كما ألاحظ دائمًا في مناسباتٍ مماثلة، لم يتحدث أي مسؤول إيراني – وليس بداعي الرغبة في تلقي الدعوة. وفي الحقيقة، سبق أن وافقتُ على الظهور في مجموعات نقاش المؤتمرات في كردستان مع دبلوماسيين إيرانيين، ولم ينتهِ الأمر إلا بابتعادهم عن الأضواء في اللحظة الأخيرة. فعلى العكس، تفضّل إيران تفادي هذه المناسبات العامة مع الجنسيات الأخرى، للتشديد أكثر على دورها الخاص المفترض أن يكون فريدًا في كردستان (أو ربما لإخفائه).
 
يصعب أن يكون ذلك الدور دورًا حميدًا. فمنذ فترة قصيرة مثلًا، أخبرني رجل أعمالٍ من إربيل أن عملاء إيرانيين تواصلوا معه مرّتين وأرادوا استعارة شاحنته لغاياتٍ غير محددة. وفي هذه الرحلة، سمعتُ من عدة مصادر أمنية كردية أن إيران تستخدم الآن في السرّ هذه الشاحنات التجارية غير الملحوظة لنقل قطع صاروخية متطورة عبر كردستان، كما في أجزاءٍ أخرى من العراق، إلى وجهات ميليشياوية غير معروفة – سواء داخل البلد أو خارجه. والأمر الوحيد المحتمل الذي رأى المسؤولون المحليون أنه يضع حدًّا لهذا النشاط هو الصعوبات الاقتصادية المحلّيّة المتنامية في إيران. وبعد طلب الحصول على مثلٍ ملموسٍ، قال أحد المراقبين المحليين بسخرية، “حسنًا، نلاحظ كمًّا إضافيًّا كبيرًا من الإيرانيين الذين يعبرون حدودنا لإيجاد عملٍ مؤخّرًا. وفي الواقع، تأتي الآن معظم العاهرات في إربيل من إيران”.
 
يقول معظم الأكراد الذين تحدثتُ إليهم إنهم مستاؤون من هذه التجاوزات الإيرانية. ويضيفون أنه، على عكس عدة عراقيين آخرين، وبالرغم من بعض العلاقات السياسية أو الثقافية مع إيران، لا يتشارك الأكراد الذين يتألف جزءٌ كبيرٌ منهم من السنّة الانتماء الديني مع معظم الإيرانيين – ويكبت الكثيرون غضبهم إزاء معاملة إيران القاسية مع أقليتها الخاصة من الأكراد الذين يبلغ عددهم حوالى عشرة ملايين. لكن اليوم غالبًا ما يشعر الأكراد العراقيون أنهم مكرهون على التملّق لطهران. فأخبرني مسؤولان رفيعا المستوى من “حكومة إقيم كردستان” على انفراد أنهما دَعيا الرئيس الإيراني حسن روحاني لإضافة إربيل إلى زيارته لبغداد في الأسبوع الماضي، مع أنهما لم يتلقيا ردًّا إيجابيًّا. وفي مقابلةٍ علنية هذا الأسبوع، رفض رئيس الوزراء في “حكومة إقليم كردستان” الالتزام بإنفاذ العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد إيران، راميًا تلك الكرة إلى حكومة بغداد بدلًا من ذلك.
 
يقودنا ذلك إلى صلب الموضوع: فلم يعد الأكراد العراقيون يشعرون أنّه بإمكانهم التعويل تمامًا على الدعم الأمريكي لمكافحة إيران، حتى داخل كردستان. فذكر عددٌ منهم أن البعثة العسكرية الأمريكية المتقطّعة للأكراد في سوريا المجاورة تشكّل نذيرًا مشؤومًا. وأخبرني عدة مسؤولين رفيعي المستوى في “حكومة إقليم كردستان” أنهم سيرحّبون باستمرار الوجود العسكري الأمريكي في كردستان، حتى لو أو خاصةً إذا نفّذ البرلمان العراقي في بغداد تهديدات الفصائل الموالية لإيران بطرد القوات الأمريكية من العراق. وكما قال أحدهم، “كنتَ محقًّا عندما حذّرتَنا من أن الولايات المتحدة لن تساعدنا إذا حقق الاستفتاء نتائج عكسية. لكن الآن، إذا تبيّن أن ضغط إيران على بغداد صعب المقاومة جدًّا، هل يُحتمَل أن تلتفت الولايات المتحدة إلى كردستان بدلًا من ذلك؟”. فلا تشكّل رغبة الأكراد في الحصول على الحماية الأمريكية أمرًا حديث العهد؛ لكن اتضح أن شكّهم في احتمالاته أكبر بكثير مما كان عليه في خلال زيارتي الأخيرة، تمامًا قبل أن دبّر قاسم سليماني الهجوم على كركوك.
 
في الوقت نفسه، وبطرقٍ أخرى، تعطيني كردستان اليوم أيضًا إحساسًا حادًّا بأنه “كلما تبدّلت الأمور، بقيت على حالها”. فعادت المنطقة إلى حدودها القديمة، حيث لا تزال “حكومة إقليم كردستان” تتمتع بقدرٍ كبيرٍ من الحكم الذاتي اليومي من بغداد. كما أنها لا تزال تتمتع، بناءً على خبراتي الأخيرة، بقدرٍ من السلامة العامة أكبر بكثير من معظم المناطق الأخرى في العراق، وبموقف ودّي أكبر بشكلٍ ملحوظ إزاء الولايات المتحدة. واستعاد اقتصاد كردستان معظم آليات التأقلم السابقة، مع بقاء أغلبية العمّال على جدول رواتب “حكومة إقليم كردستان” والازدياد الأخير لمعاشاتهم التي تموّلها كلها عائدات النفط المحلّيّة والمدعومة من بغداد في آن.
 
علاوةً عى ذلك، رغم الاضطراب الكبير بعد الاستفتاء، ما زالت الأحزاب السياسية نفسها وحتى الأفراد نفسهم يحكمون هذه الأراضي إلى حدٍ كبير: أي “الحزب الديمقراطي الكردستاني” وعائلة بارزاني في إربيل والغرب، و”الاتحاد الوطني الكردستاني” وعائلة طالباني في السليمانية والشرق. وكانت الانتخابات الإقليمية الأخيرة لصالح “الحزب الديمقراطي الكردستاني” كالمعتاد. والمفاوضات جارية حاليًّا بشأن التوزيع الدقيق بين الحزبين للرئاسات البرلمانية والوزارات الحكومية والسلطات السياسية النافعة الأخرى. ويدين استقرار هذا الاصطفاف، بناءً على محادثاتي الأخيرة على مسرح الأحداث، بشيءٍ إلى حس المسؤولية المشتركة عن النكستيْن الأخيرتيْن: فيلقي البعض اللوم على “الحزب الديمقراطي الكردستاني” للضغط من أجل المضي قدمًا في الاستفتاء بأي ثمن؛ فيما يلوم البعض الآخر “الاتحاد الوطني الكردستاني” المنافس على خسارة كركوك حين ردّت القوات العراقية والمدعومة من إيران على التصويت باستخدام القوة.
 
إن هذه البنية التقليدية للسلطة مترسخة جدًّا لدرجة أن المناصب الحكومية الأهم على وشك أن يُعاد توزيعها بين أفراد عشيرة بارزاني: فسينتقل نيجيرفان من رئاسة الوزارة إلى الرئاسة؛ وسيستولي ابن عمّه مسرور على رئاسة الوزارة. وسيبقى الحَكَم الأخير خلف الكواليس، بحسب المحادثات التي أجريتُها مع كبار المسؤولين في كلا هذين المنصبين، هو الرئيس السابق الذي اختار أن يستقيل رسميًّا بعد أن أسفر الاستفتاء عن نتائج عكسية: أي مسعود بارزاني والد مسرور وعم نيجيرفان.
 
إذًا بهذا المعنى المهم، لم يتغيّر الكثير داخل كردستان العراق، رغم الاضطرابات التي حدثت في السنتيْن الأخيرتين. وما تبدّل أكثر هو كيفية قيام هؤلاء الأكراد بقياس وزن خياراتهم الخارجية. فهم يقولون لي، أظن بشكلٍ صادق، إنهم يفضّلون أكثر الولايات المتحدة على أي حليف آخر. لكنهم أيضًا أقل يقينًا بكثير مما كانوا عليه سابقًا من مدى مبادلة ذلك الشعور من الجانب الأمريكي.

التعليقات معطلة.