أصل الحكاية في حرب أنقرة على عفرين
… وأول الحكاية إعلان واشنطن نيتها الاستعانة بالميليشيا الكردية لتشكيل قوة عسكرية تراقب الحدود الشرقية والشمالية من سورية، ما أثار حفيظة أنقرة ووفر لها ذريعة كانت تنتظرها لوضع مشروعها المعلن باجتياح مدينة عفرين موضع التنفيذ، كمقدمة للتمدد عسكرياً نحو أرياف إدلب وحلب، وكرد استباقي على ما قد يخلفه تطور التحالف بين أميركا وقوات سورية الديموقراطية من أخطار في دعم الطموح القومي الكردي الذي طالما أرّقها، بخاصة أنها من نكث الوعد بإنجاز مصالحة تاريخية مع الأكراد لمعالجة معضلتهم القومية وآثرت كالعادة اللجوء إلى الخيار العسكري الدموي لتصفية هذه القضية في سورية وتركيا على حد سواء، وعزز هذا الخيار قلقها المتنامي من تواتر تجاوزات النظام وحلفائه لما تم إقراره في اجتماعات الآستانة بخصوص مناطق خفض التصعيد في أرياف إدلب وحماة، وتحسبها من أن يفضي تقدمهم العسكري هناك، إن لم تجاريه بتقدم موازٍ، إلى إضعاف أوراقها التفاوضية على المستقبل السوري، وتالياً قدرتها على تحسين نفوذها الإقليمي الذي تزداد حاجتها إليه اليوم مع تراجع شعبيتها داخلياً وانحسار علاقاتها الدولية، من دون أن نغفل الحافز المتعلق بأوهام بعض نخبها في استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية.
ومن الحكاية، إن ما يُجرى في عفرين هو عنوان لتفاهمات بغيضة بين دول تعمل على اقتطاع لحم وطننا السوري واللعب بمصير شعبنا المنكوب، فما كانت أنقرة لتتجرأ وتقدم على هذه المعركة الدموية من دون ضوء أخضر من أهم الأطراف العالمية والإقليمية المؤثرة في الصراع السوري، والدليل وقوف الولايات المتحدة على الحياد بإعلانها أن منطقة عفرين خارج مجالها الحيوي، ومسارعة موسكو لسحب قوتها الرمزية من مشارف المدينة! والثمن سكوت حزب العدالة والتنمية عن القصف الروسي لمدينة إدلب وعن توغل قوات النظام والميليشيا الحليفة له في أريافها، واستيلائها على مواقع استراتيجية كمطار أبو الظهور العسكري، أسوة بالثمن الذي دفعته أنقرة لقاء تقدمها صوب جرابلس حين مكنت القوات الروسية من السيطرة على مدينة حلب.
ومن الحكاية، أن وراء تحول حكومة العدالة والتنمية من سياسة صفر مشاكل، إلى سياسة تدخلية نشطة تجاوزت المألوف في شؤون المنطقة، بخاصة في سورية والعراق، هو حضور نهج براغماتي فاقع ومذل يحدوه الحفاظ على السلطة بأية وسيلة، وإحياء مطامع حزب العدالة والتنمية في قيادة الإسلام السني، نهج لم يقف عند الخضوع لدور موسكو وإملاءتها ومهادنة التمدد الإيراني والتنسيق مع الطرفين لإخماد الكثير من البؤر السورية، أو عند التعاون على تطويع المعارضة السياسية والعسكرية السورية وتوظيفها في شكل خبيث بعيداً من مصالح الشعب ومطالبه المشروعة، بل وصل لفتح قنوات تواصل مع تنظيمي «القاعدة» و «داعش»، واستثمار ورقتيهما لضرب الصعود الكردي وتعزيز الموقع التفاوضي، ويدرج في هذا السياق دعم أنقرة المستمر هيئةَ تحرير الشام، المرتبطة بـ «القاعدة» والمصنفة إرهابية، إن بتغطية مصادر مدها بالأسلحة، وإن بتسهيل مرور آلاف الجهاديين للالتحاق بها.
ومن الحكاية، وبعيداً من الترويج المضلل لفكرة أن تركيا دولة ذات سيادة لها حق أممي مشروع في مواجهة ما تعتبره جماعات كردية إرهابية، فإن العصبية الدينية تجلت بأوضح صورها في مساندة الاجتياح التركي لعفرين، بخاصة من جماعات المعارضة السورية المسلحة التي تحمل أسماء وشعارات إسلاموية، ليخوض الجميع ما يعتبرونه واجباً دينياً مقدساً لاستئصال الكفرة والملحدين وعبر أشنع الوسائل وأشدها انتهاكاً لحقوق الإنسان، إحدى صورها التمثيل المقزز بجثة المقاتلة الكردية بارين كوباني! ليصح السؤال، ماذا بقي من النموذج التركي للعمارة الإسلامية الديموقراطية التي كان يعول عليها لإشاعة الاعتدال الإسلامي ولإنجاح التعايش بين الدين والديموقراطية والعلمانية؟!
ومن الحكاية، أن ثمة ما يشبه الإجماع للضغط على الشعب الكردي وتطلعاته المشروعة، أحد وجوهه ما نجم عن الاستفتاء الذي حصل في شمال العراق، ووجهه الآخر استحضار كل ما يخطر على البال من مثالب محقة تتعلق بممارسات الحزب الديموقراطي الكردي ووحدات حماية الشعب لتسويغ معركة سحقهم في عفرين، على أنهم من قمع مناهضيهم، ومن هجروا العشائر العربية في شرق البلاد، ومن خذلوا الثورة بداية انطلاقتها، وتعاونوا مع قوات النظام في غير منطقة، والأنكى تعمد إغفال حقائق معاكسة، أنهم الأكراد أنفسهم الذين رفضوا الاقتراح الروسي بتسليم عفرين للسلطة السورية لقاء وقف الحرب عليهم، وهم من قاتلوا قوات النظام في غير موقعة شرق البلاد، وهم الذين تصدوا ببسالة لتنظيم «داعش» وكانوا أول من هزمه في عين العرب/ كوباني، ومن طرده من مدينة الرقة.
وآخر الحكاية، أن إعلان الحرب على عفرين، وأياً يكن الغرض، هو عنوان لدعم لغة العنف ولتغذية منطق الغلبة وجحيم الفتك والتدمير، الأمر الذي لا يمت بصلة للقيم الأخلاقية والإنسانية، ويزيد الطين بلة اكتظاظ المدينة وأريافها بعشرات ألوف الفارين اليها من محافظتي إدلب وحلب، واحتمال أن تطول المعركة منذرة بمزيد من الضحايا والخراب، ولا يبرر صمتنا وعدم مناهضتنا هذه الحرب، القول أن السوريين ملزمون بالوفاء لأنقرة التي وقفت مع معاناتهم ومطالبهم، أو أن ذلك قد يؤثر سلباً في أوضاع ملايين اللاجئين في تركيا، ويفضي إلى تضييق الهامش المتاح لحراك المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري هناك، فكيف الحال وغالبيتها باتت تعتقد بأنه لم يبق لها من معين سوى أنقرة كي يضمن لها حصة في المستقبل السوري.
صحيح أن النظام وحلفاءه فقدوا كل قيمة أخلاقية عندما سوّغوا كل أنواع الفتك والتدمير للنيل من الشعب السوري وحلمه في الحرية والكرامة، لكن الصحيح أيضاً أن قادة أنقرة باتوا في الموقع ذاته، يسوغون لنصرة سلطانهم ومشروعهم الأيديولوجي أفعال عنف وتنكيل موازية لا تعير اهتماماً لآلام البشر ومعاناتهم، ولا تقيم وزناً لحيوات الناس وحقوقهم.