خالد غزال
يقف العراق أمام مرحلة جديدة من الصراعات السياسية والمذهبية والإثنية. بعد الانتصارات على «داعش» في الموصل، والسير في هزيمتها في ما تبقى من مناطق، تتسارع التناقضات الداخلية وصراعاتها لتحتل مكانها على الساحة العراقية، مهددة بانفجارات داخلية، لا يستبعد مراقبون تحولها الى حروب أهلية تمنع الاستقرار السياسي في هذا البلد. ثلاثة ألغام رئيسة ستهدد السلم الأهلي الذي لم يستقر بعد.
أول الألغام يتصل بالقضية الكردية الناجمة عن دعوة الإقليم الكردي للانفصال. ناضل الأكراد طويلاً من أجل حقوقهم بحدها الأدنى منذ سيطرة حزب «البعث» على السلطة في الستينات، ونالوا من الاضطهاد ما لم يشهده التاريخ العربي، في ظل قومية عربية شوفينية مثلها حزب «البعث»، ترفض الاعتراف بحقوق الأقليات، وتسعى الى «تعريبهم» بالقوة. قاد الأكراد نضالاً طويلاً من أجل حكم ذاتي، أمكن لهم تحقيقه بعد هزيمة العراق أمام التحالف الدولي في التسعينات. لكن القيادة الكردية كانت تؤسس منذ ذلك الوقت لكيان كردي مستقل يشكل بوابة الدخول الى دولة كردستان التي تضم أكراد تركيا وسورية وايران إضافة الى العراق. ارتفع منسوب الحلم بعد احتلال العراق، وخصوصاً بعد ان أدخل المالكي «داعش» الى الموصل عبر إعطائه الأوامر للجيش العراقي بالانسحاب بناء على قرار إيراني.
اليوم، وبعد هزيمة «داعش» التي ساهم بها الأكراد، يواجهون ما سبق أن عانوا منه بالتلاعب بقضيتهم، ووقوف دول الجوار ضد أي عملية انفصالية. في الداخل العراقي، هناك تهديدات بأن سير الأكراد بالانفصال سيتسبب بحرب أهلية. واستعاد الأتراك والإيرانيون التنسيق العسكري، تحت عنوان منع الاستفتاء الكردي في العراق على الانفصال، لمعرفة البلدين بنجاحه، وما سيشكله من انبعاث الشعور القومي في بلديهما وأخطار هذا الاستنهاض. والنظام السوري، الذي تلاعب بالأكراد خلال الانتفاضة وأغراهم بالوقوف الى جانبه، سينضم الى إيران وتركيا في معارضة الانفصال. فهل يعي الأكراد خطورة الآتي عليهم، ويخففون من مطالبهم الانفصالية والقبول بتحسين شروط الحكم الذاتي؟
اللغم الثاني الذي ما زال منفجراً هو الصراع السنّي- الشيعي على السلطة ومراكز النفوذ. لا يبدو في الأفق ما يشير الى إمكان تسوية داخلية توزّع السلطة بما يضمن حقوق المجموعات في العراق. لا يزال جموح الهيمنة والثأر من الماضي يتحكم في القيادات السياسية التي تولت السلطة في العراق بعد الاحتلال الأميركي، والتي ازداد نفوذها بفعل التدخل الإيراني. في هذه النقطة المتفجرة، يجب الأخذ في الاعتبار ما باتت تمثله إيران في العراق من قوة نفوذ وتحكّم بالقرار السياسي والأمني. لا يدخل في العقل الإيراني ما يعرف بالتسويات، بل الهيمنة الوحيدة الجانب والقمع لسائر المجموعات، بما فيها إدارة حرب أهلية في ما بينها. إضافة الى ذلك، باتت إيران تعتبر العراق منطقة نفوذ إيرانية بالكامل، وهو قلب الأمبراطورية الفارسية. إن ممارسة إيرانية – عراقية تتسم بقهر المجموعات السنّية هو أقصر الطرق الى إذكاء نار الحرب الأهلية وعودة «داعش» الى العراق وانخراطها في الصراع المذهبي الدائر.
اللغم الثالث يتصل بالصراع الشيعي– الشيعي. بعد إعلان الانتصار على «داعش»، تصدع التحالف الشيعي وظهرت الخلافات في ما بين قواه. في الجانب العراقي- الإيراني، برزت اعتراضات عراقية على الهيمنة الإيرانية، سواء أكان في تحجيم بعض القوى الأساسية أم في السعي الى إلحاق المرجعية الدينية في النجف بالمرجعية الإيرانية في قم. وشهد العراق تظاهرات تدعو الى خروج إيران من العراق. مظهر آخر من مظاهر الصراع كان في مواقف قوى ثلاث من الحكم العراقي وربيبته الإيرانية، هذه القوى تمثلت بالمرجعية الشيعية السيستاني، وباقر الصدر وعمار الحكيم. من المفيد التدقيق في حدود تحول هذه القوى والمدى الذي ستصل اليه بعد توجهها الخليجي. لا يغيب العنصر العربي في وجه العنصر الفارسي عن هذا الصراع، كما يجب النظر الى استدارة هذه القوى العربية سعياً الى تقوية نفوذها الداخلي ضد القوى المدعومة بالمطلق من إيران. كما لا يجب الحكم بقطيعتها مع إيران، فهي لا تزال على علاقة معها، ولكنها تريد موقعاً في السلطة يتجاوز ما نالته حتى الآن. في كل الحالالت لا يجب التقليل من شأن هذه التعارضات في ما هو قادم.
سيُحكم العراق في تطوراته المقبلة بما ستقرره إيران في شأن قوى النفوذ ومواقع السلطة. والذي يزيد من المخاوف على هذا البلد، إن الجار الإيراني لن يتورع عن تجديد الحرب الأهلية، سواء بين السنّة والشيعة، او بين الشيعة أنفسهم، اذا ما شعر بأن العنصر القومي العربي عاد الى النهوض، وأن مطلب الاستقلال سيرتفع. كما سيستخدم العنصر الكردي في تأجيج الاضطرابات الداخلية.