فاروق يوسف
من غير ان تكون مرتبكا لا يمكنك أن تمشي في مانهاتن إلا إذا قررت أن لا ترفع رأسك إلى السماء. النظر إلى السماء يعني رؤية الأبراج الشاهقة وهي ناطحات سحاب قدر لها أن تكون العنصر الذي لا تكون نيويورك موجودة إلا من خلاله. نيويورك هي شوارعها الطويلة، الواسعة وبناياتها الشاهقة.
رمز العصر الحديث يتألف من أحجار وزجاج واسمنت وحصى وحديد.
هناك أشياء كثيرة تقع على الأرض لا علاقة لها بمَن يقيم في الطبقات العلوية من تلك الأبراج. كأن يأكل المرء طعامه في مطعم مكسيكي أو يذهب للتريض في سنترال بارك أو يقرر الجلوس في مقهى فرنسي ليقرأ جريدته منتظرا أن يُسعده الحظ برؤية ممثلة يحبها فذلك المقهى يقع في بداية شارع برودواي وهو شارع المسارح.
لم تختصر تلك الأبراج المسافة بين الأرض والسماء بل زادتها سعة.
الثراء في نيويورك لا يمكن اخفاؤه اما الفقر فإنه مبثوث في الطرقات.
مدينة ثرية لا تُرد غواياتها غير أن مَن يعش فيها يدرك كم هي كاذبة وعودها.
ترفع رأسك إلى السماء فترى الغنى محلقا بأجنحة من رخام وما أن تخفض عينيك حتى يضربك الفقر في أسوأ مظاهره. هل هي النظرية الدينية نفسها؟
لا أعتقد أن الدعاء يصل إلى الأبراج العالية هنا.
تفكر في سكان العالم السفلي. كل ثراء مبالغ فيه يقابله فقر أشد مبالغة وتهورا وفسادا منه. هل هي مجرد مقولة عفا عليها الزمن؟
المؤكد أن الثراء الظاهر يثير حسد وغيرة لدى من لا يجد إليه سبيلا فتبدأ ماكنة الخيال بالعمل لتنتج فقرا لن يكون بالضرورة حقيقيا. قد يكون الفقر المتخيل أشد فتكا من الفقر الطبيعي.
فقد ينتج الفقر المتخيل شخصيات مثل دونالد ترامب الذي يحكم الولايات المتحدة بقوة الوحش المقيم في برجه بمانهاتن. وهو ما أدركه المثقفون منذ اللحظة الأولى لتنصيبه رئيسا.
يقال ليست أميركا كلها نيويورك. ولكن لا معنى لأميركا من غير نيويورك، مانهاتن بالتحديد.
ذلك الحي المترامي الأطراف بشوارعه المرقمة يجعلك سعيدا ببلاهة في لحظة الهام اسطوري تصدر عن اعجاب بقدرة الإنسان الباني غير أن ذلك الحي يورثك في الوقت نفسه مشاعر ليست سعيدة. على الأقل إنه يسلمك إلى شعور عميق بالعجز.
روح الاستعراض الأميركية لا تسمح بلحظة استفهام. هناك دائما حقائق غاطسة لا صلة لها بالمعجزات التي تُرى. لذلك يمكن النظر إلى أميركا بطريقتين. وهما طريقتان تقودان إلى فهمين مختلفين للقوة الأميركية التي تُخيف وصار الكثيرون يعتبرونها مصدر خطر مؤكد على العالم.
أميركا التي كانت دائما ناقصة عقل لا تمثل أحدا سوى مؤسساتها السياسية. وهي مؤسسات لا يعيرها الأميركيون القدر نفسه من الاهتمام الذي تحظى به خارج أميركا.
عن طريق تلك المؤسسات تبدو أميركا أكثر فقرا مما نتوقع.
من المؤسف أن شعارا من نوع ‘أميركا أولا’ هو شعار مطلوب شعبيا. لذلك فإن أميركا الأخرى التي تسمو من خلالها القيم الإنسانية عبر وسائل الابداع المختلفة وهي كثيرة هنا، لا يمكن تلمس الطريق إليها إلا من خلال المؤسسات الثقافية والتعليمية رفيعة المستوى التي تتحرك في نطاق نخبوي خارج منطق المنفعة العملي.
ثراء أميركا وفقرها يقيمان أيضا في الجانب الآخر. وهو جانب لا يخلو من هيمنة ماكنة المال وإن كانت المسألة لا تقع في مجال الهيمنة العدوانية. ففي نيويورك بشكل خاص هناك مجموعة من المفاهيم الثقافية رفيعة المستوى تهب الخطاب الثقافي الأميركي نوعا من المصداقية غير أن تلك المصداقية ليست في متناول الجميع.
ما يُخيف في أميركا أنها تبيح لنفسها استعمال كل شيء من أجل أن تكون فوق الجميع بما يخدم هيمنتها. وهي الرؤية التي يتبناها أصحاب الأبراج العالية الذين تبدو أميركا معهم أكثر غباء من حقيقتها.
اميركا التي فوق غير أن أميركا التي تحت. غير أن الإجابة عسيرة على سؤال من نوع ‘أي منهما أفضل من الأخرى؟’