أنطوان الدويهي
أستاذ جامعي لبناني
ليس هذا العنوان للتذكير بفيلم إيليا قازان الشهير… إذ ثمة عبارة شائعة في العديد من الأوساط اللبنانية، خصوصاً المؤيدة منها لـ«محور الممانعة»، مفادها: «كل الحق على أميركا»! لا بد أن تكون هذه العبارة منتشرة أيضاً في أنحاء أخرى من المشرق والمغرب. و«كل الحق على أميركا» جواب سحري عن كل سؤال.
تغطي هذه العبارة الكثير من المسائل، الصغيرة منها والكبيرة. فإذا أشرت إلى انفجار مرفأ بيروت الرهيب في ذكراه الرابعة، فغالباً ما يأتيك أحدهم بالجواب الشافي: « كل الحق على أميركا». وتطمس هذه الإجابة مأساة انفجار المرفأ، من ألفها إلى يائها. فلا يعود من حاجة لمعرفة من أدخل هذه الكمية الهائلة من نترات الأمونيوم، القادرة على محو مدينة بيروت برمتها من الوجود، ومن حافظ عليها في ذلك العنبر على مدى سنوات طوال، وأخرج منها شيئاً فشيئاً كميات معدة للتفجير في سوريا وفي أنحاء متفرقة، ومن فجّر المرفأ والأشرفية وأحياء أخرى، ومن منع الاستدلال إليه، ومن عطّل العدالة وقمعها بكل الوسائل لعدم ظهور الحقيقة.
وإن تساءلتَ عن فضيحة العتمة التي تلف لبنان من أقصاه إلى أقصاه، بينما آخر دولة في أدغال أفريقيا مضاءة بالكهرباء، وتشير إلى تخصيص عشرات مليارات الدولارات على مرّ السنين لوزارة الطاقة لتمويل مشاريع الكهرباء، فتبددت دون جدوى كالهباء المنثور، وأغرقت ميزانية الدولة في ديونها الباهظة، جاءتك العبارة نفسها: «كل الحق على أميركا».
وإن أردت تحليل الانهيار المريع الذي وصلت إليه «بلاد الأرز»، بفعل فساد الطبقة السياسية والمالية والإدارية الذي يفوق الوصف على مدى ثلث قرن، وبفعل مجهود الثورة الإيرانية خلال عشرات السنين من أجل قيام دولة «حزب الله» على هامش دولة «لبنان الكبير»، ستجد من يجيبك هنا أيضاً: «كل الحق على أميركا».
ويصل الأمر بأصحاب العبارة إلى استخدامها لتفسير الكوارث الطبيعية؛ إذ ثمة من رأى في الزلازل العنيفة التي ضربت تركيا وسوريا، نتيجة مباشرة لـ«التجارب النووية الأميركية السرية» تحت سطح الأرض في صحراء نيفادا!
ليست هي إلا أمثلة قليلة من مجموع المسائل التي يجاب عنها بالعبارة السحرية نفسها.
ولا بد لنا من التوقف عند المعاني والمضامين التي تنطوي عليها عبارة «كل الحق على أميركا»، حيث تتداخل الأفكار والرغبات والمشاعر، وتلتقي مستويات الوعي واللاوعي. فالعبارة تعني في عمقها أن ثمة قوة عليا تتحكم بمسار التاريخ وتقرر مصير الأفراد والجماعات. شيء شبيه بدور الآلهة في الحقب الوثنية، وبدور العناية الإلهية في مرحلة التوحيد.
ومن نتائج هذه العبارة أنها تعفي مردديها من عبء التفكير ومن عبء المسؤولية. فهي أفضل سبيل للتغطية على الجهل الشخصي وعدم الرغبة في التحليل والعجز عن ممارسة العقل النقدي. فالعبارة جواب جاهز لكل شيء. وهي لا تعفي صاحبها من التفكير ومن المسؤولية فحسب، بل تعفي أيضاً من كل مسؤولية الشخصيات والقوى السياسية التي يؤيدها ويلوذ بها ويستفيد منها. فجميع المفاسد والموبقات التي ترتكبها هذه المراجع والقوى لا تعود مسؤولة حقاً عنها، ما دام هناك قوة عليا ترسم خطوط اللعبة وتحدد وجهتها. فعلى هذه القوة، وليس سواها، تقع المسؤولية.
ومن غرائب «كل الحق على أميركا» أن العديد من الذين يرددونها يحلمون بالحصول على تأشيرة دخول إلى أميركا، ويحلمون بإرسال أولادهم للدراسة والعيش فيها. فكيف نفسّر ذلك؟ ظاهرة نفسية معقدة من «الغرام والانتقام»، ومن «الرفض والانبهار»، لا متسع للتوقف طويلاً عندها في هذه المقالة.
في الحقيقة، الولايات المتحدة الأميركية قوة عظمى، لكنها أعجز بكثير من أن تكون «محرّك التاريخ». فمسار التاريخ حركة معقدة للغاية، تتفاعل فيها عوامل داخلية وخارجية لا حصر لها، تستحيل الإحاطة بها. ويكفي النظر إلى سياسات أميركا في الشرق الأوسط في العقود الأخيرة. فأي منطق وأي نتيجة من حروب أفغانستان وحروب العراق وغيرها، بكلفتها البشرية والمادية الباهظة، كي تصل في نهاية المطاف إلى هيمنة «طالبان» على أفغانستان، وبروز «الحشد الشعبي» في بلاد الرافدين؟ وكيف يمكن أن تتمدد الثورة الخمينية عسكرياً وآيديولوجياً على مدى المنطقة خلال 46 عاماً من دون غض طرف أميركي، لتعاني أميركا في نهاية المطاف الأمرّين، ليس في مواجهة إيران النووية، بل ذراعها الحوثية لا غير؟ أمثلة قليلة من ملف كبير من التناقض والضياع على طريق… « كل الحق على أميركا».