أميركا اللاتينية في حساب 2018

1

 
جميل مطر
سمعتُ من يحسد دول أميركا اللاتينية وشعوبها على أنها لم تتعرض في ربيعها أو بعده لما تعرضت له وتتعرض الدول والشعوب العربية منذ نشبت فيها ثورات ربيعها. ربيعها اختلف عن ربيعنا. اختلفت الظروف والأفكار والخبرة. ربيعنا كان كطبيعته خماسينياً وربيعهم كان كعادته ناعماً ورفيقاً. هناك جنّدت مؤسسات الدولة إمكاناتها، أو معظمها على الأقل، لتعمل في خدمة مرحلة الانتقال من الطبيعة الاستبدادية إلى التعددية والحرية. هنا، في كل مكان عربي نشبت فيه ثورة ربيع أو خافوا أن تنشب، راحت مؤسسات الدولة من اليوم الأول ترتب لانتقال من نوع آخر، الانتقال إلى ممارسات أقل تساهلاً وتسامحاً وربما بالغة القسوة والتنكّر لقيم العدالة والقانون. لا أحد، وبالدقة اللازمة لا أحد أعرفه مِن الذين تابعوا قضايا التطور السياسي في أميركا اللاتينية، لا يعترف بأن القارة تمر منذ سنوات غير قليلة بمرحلة هدوء سياسي لم تشهدها من قبل. أقصد بالهدوء الحال الذي تنتقل فيه السلطة في دول القارة من طرف إلى آخر سلمياً. حال يلتزم فيها الحاكم، حزباً كان أم فرداً، بمواعيد أقرّها الدستور لمغادرة السلطة. هي أيضاً حال تمتنع فيها السلطة القائمة عن اعتقال المواطنين لأسباب سياسية وتتفادى الاحتماء بحالات الطوارئ إلا نادراً. أنا شخصياً أعتبر نفسي أحد هؤلاء الذين تابعوا القارة من داخلها ومن بعيد. أتيح لي أن أتعرف إلى درجة معقولة إلى حال أميركا اللاتينية قبل أن تدخل مرحلة ربيع الانتقال إلى الديموقراطية. كانت قارة ملتهبة بالعنف داخل الدول وليس بين الدول. كانت قارة صاخبة بأفكار اليسار وصراخ أعداء التبعية وأصوات المتظاهرين وصرير الدبابات. بالمقارنة هي الآن قارة هادئة وإن باستثناءات محدودة ولكن مهمة. أما الاستثناءات، فهي دول أرشحها لاضطرابات خلال العام الذي بالكاد يبدأ. أرشح بوليفيا. مسوغات ترشيحها من وجهة نظري ثلاثة. أولها أن الرئيس إيفو موراليس يصر في ما يبدو على ترشيح نفسه لولاية رابعة. صحيح أن موراليس لا يزال محبوباً وله شعبية وإن متناقصة، بدليل أنه لم يفز في الاستفتاء الذي جرى أخيراً على اقتراح بتعديل دستوري يسمح له بالترشح لفترة رابعة. لم يحصل على غالبية الأصوات فلجأ إلى محكمة دستورية أفتت له بما يريد. ثاني المسوغات هو أن بوليفيا تقع كموقع مركزي على خط السكك الحديد الذي تمدّه الصين ليربط المحيط الأطلسي من البرازيل بالمحيط الهادي عند بيرو. هذا الخط جزء حيوي من مبادرات الصين المخصصة لتطوير وسائط النقل التجاري في العالم. لن تخفى على أحد في واشنطن وبروكسيل وموسكو أهمية هذا الخط ومغزى اختيار بوليفيا محطة مركزية له. ولا تخفى علينا الآثار الاقتصادية والاجتماعية المترتبة عليه. وفي ظننا أن التدخل الأجنبي المكثّف لن يتأخر ولن تتأخر بالتالي القضايا السياسية الناشئة عنه. ثالث المسوغات هو الاحتمال المتزايد بأن تعود الولايات المتحدة إلى الاهتمام ببوليفيا للحصول على نصيب في استثمارات الكشف عن الغاز وإنتاجه وتصديره. كانت أوراق الكوكا السبب المباشر في صعود موراليس، ابن السكان الأصليين والاشتراكي الميول والعقيدة إلى قمة السلطة. كانت أيضاً السبب المباشر في خلافه وأزمته الشديدة مع واشنطن. أعتقد أن الغاز حلّ محل الكوكا في أولوية اهتمامات الطرفين وكمصدر مباشر للتوتر السياسي في بوليفيا.
 
تبقى كوبا الاستثناء الثاني، بعد أن كانت تتصدّر مواقع التوتر في القارة. تفاءل الكثيرون بالتقارب التاريخي الذي نجح الرئيس باراك أوباما في تحقيقه في العلاقات الأميركية- الكوبية. تفاءلوا أملاً في أن يؤدي هذا التقارب فوراً، وبخاصة بعد وفاة الزعيم فيديل كاسترو، إلى سقوط النظام الشيوعي. لم يسقط النظام ولا يزال راؤول كاسترو رئيساً حتى يتسلم ميغيل دياز كانيل السلطة خلال عام 2018. واشنطن تعتقد أن رفع العقوبات مع الانفتاح المتزايد سيزيد فرص عدم الاستقرار السياسي. محللون في أميركا اللاتينية يعتقدون أن الرئيس ميغيل لن يحيد عن خط النظام الذي رسمه الرئيس كاسترو حين جعل المؤسسة العسكرية، وليس الحزب الشيوعي، الضامن للاستقرار. الرأي الغالب يستند إلى تجارب كثيرة في دول نامية أخرى اعتمدت في تنميتها على القطاع العام والتوزيع العادل للثروة ثم تحولت إلى الانفتاح ومن بعده سلكت مسالك الرأسمالية، وانتهت جميعها إلى استيلاء أقلية على الثروة وانقسامات داخل الجيش والطبقة الجديدة الحاكمة بسبب السعي وراء وظائف في الشركات. كان عدم الاستقرار الحال التي انتهت إليه معظم هذه التجارب. لذلك يوجد الآن في أميركا اللاتينية من يتوقع اضطرابات ممتدة الأجل في كوبا أو في الخارج بسببها بعد قليل من تسلّم الرئيس الجديد السلطة. أرشح فنزويلا استثناء ثالثاً. لم تكن فنزويلا في ظل حكم هوغو شافيز دولة هادئة. كانت، على العكس وفي نظر واشنطن تحديداً، دولة مثيرة للشغب والمتاعب. أراد شافيز الحالم الأكبر بفيديرالية أو دولة موحّدة باسم بوليفاريا نسبة إلى محرر شمال القارة سيمون دي بوليفار. هذه الطموحات الوحدوية والقومية أقلقت الولايات المتحدة أكثر من أي برامج وتطلّعات اشتراكية آمَن بها شافيز وورثها عنه الرئيس مادورو. كلها طموحات توسعية، لكن أخطرها على الهيمنة الأميركية هي الشعارات القومية التي تذكرها بنظام خوان بيرون في الأرجنتين. حاولت واشنطن بكل الطرق المتاحة أمامها، وهي قليلة بسبب الوعي الناشئ في أميركا اللاتينية الرافض لتدخل أميركا في الشؤون الداخلية للقارة اللاتينية، لا فارق بين نظام ثوري ونظام ليبرالي؛ إسقاط حكم مادورو، وفشلت على رغم سوء الأحوال الاقتصادية والحملة الإعلامية ضد حكومة كاراكاس. بدا واضحاً أن النظام كان معتدّاً بجيش داعم لإرث هوغو شافيز ورافضاً بشدة تدخل واشنطن. هكذا تدخل فنزويلا إلى عام 2018 محمّلة بأعباء أعوام من التوتر والفوضى ومحبطة بسبب انخفاض أسعار النفط واستمرار العقوبات الأميركية.
 
أرشح أخيراً هندوراس وجارتها نيكاراغوا استثناءين، هما في الواقع دائمان. ففي نيكاراغوا رجل في السلطة قاد واحدة من أهم ثورات أميركا اللاتينية هو السنيور أورتيغا. نذكر «السادندينستا» وكفاحها الأسطوري ضد الاحتكارات الأميركية، ونذكر في الوقت نفسه ميليشيات الكونترا اليمينية والصفقات الأميركية الإيرانية الشهيرة لتمويل هذه الميليشيات. حرب امتدت أعواماً وانتهت بوصول مَن كانوا ثواراً إلى مقاعد الحكم وما زالوا يحتكرون السلطة ويستعدون لتولي ولاية جديدة، وما زالت نيكاراغوا ثاني أفقر دولة في أميركا الجنوبية. أما هندوراس، فيحكمها رئيسٌ زيّف نتائج الانتخابات وساعدته الولايات المتحدة للاستمرار في الحكم مطمئنة إلى أنه سيكون أقدر من منافسه سلفادور نصر الله، مذيع الكرة اللبناني الأصل، على وقف الهجرة غير الشرعية من هندوراس إلى الولايات المتحدة. هندوراس جرّبت الانقلابات العسكرية بدعم أميركا أكثر من مرة وغير مستبعد تجدد التظاهرات والاضطرابات ضد الحكم العسكري القائم.
 
أخذاً في الاعتبار هذه الاستثناءات المحدودة؛ يصح القول إن القارة شهدت فترة هادئة جرى خلالها انتقال عدد كبير من الدول من نظم حكم عسكرية أو مدنية استبدادية إلى نظم ديموقراطية أو أقرب شيء ممكن من الديموقراطية المتعارف عليها في دول الغرب. يبقى السؤال المثير للاهتمام على المستويات كافة. ما هي الأسباب والظروف التي هيّأت لأميركا الجنوبية هذا الانتقال الهادئ، خلافاً لكل ما تعارف عليه المؤرخون طيلة قرنين من الزمن حول طبيعة مراحل الانتقال في أميركا اللاتينية؟ أستطيع في سطور قليلة عرض بعض ما أراه من وجهة نظري أسباباً وظروفاً كانت دافعة، أو على الأقل ساعدت، في تهيئة الهدوء والاستقرار النسبيين في أميركا اللاتينية خلال العقود الثلاثة الماضية.
 
أولاً: جاءت هذه العقود الأخيرة في أعقاب انتهاء الحرب الباردة وتوقف معظم مظاهر السباق بين الدولتين الأعظم على النفوذ وحروب الوكالة في القارة. كثير من التوتر وعدم الاستقرار في القارة كان السبب فيه التدخل المكشوف لدعم حكومات أو لإثارة القلاقل ضدها. كان النموذج البارز لهذا التدخُّل الخطة الأميركية التي رسمها ونفّذها هنري كيسنجر لإسقاط حكومة يسارية في شيلي وإقامة حكومة عسكرية بقيادة الجنرال بينوشيه. تبقى أيضاً المسألة الكوبية مثالاً بارزاً آخر.
 
ثانياً: شهدت سنوات ما بعد الحرب الباردة تركيزاً أقوى من جانب الولايات المتحدة على الشرق الأوسط وقضايا التجارة العالمية مع الصين والقوى الآسيوية الناهضة والمسماة في ذلك الحين بـ «النمور». لم يحدث في أميركا اللاتينية في تلك المرحلة على ما أذكر ما يهدّد مصالح أميركا أو يعطّل طموحاتها في مشروع العولمة.
 
ثالثاً: عمّت في القارة الجنوبية في أعقاب انطلاق مرحلة الانتقال إلى الديموقراطية مشاعر حماسة وبهجة وتفاؤل، ربما حجبت بعضاً أو كثيراً من مؤشرات قلق ومتاعب اقتصادية وصعوبات اجتماعية.
 
رابعاً: ما زال المفكرون والسياسيون في أميركا اللاتينية يشيدون بفضل المجتمع المدني على تحقيق الانتقال الهادئ من الاستبداد إلى الديموقراطية. أشهد بنفسي على الدور الرائع الذي قامت به المنظمات الأهلية والكنائس والمفكرون الدينيون والجمعيات الحقوقية والطلاب والأساتذة والنقابات مع الأحزاب والحكومات، للتخفيف من إعلاء الانتقال وصعوبات على الأفراد والمؤسسات التقليدية.
 
خامساً: تراجعت تلقائياً ونسبياً مؤشرات الفساد بما سمح لسلطات الانتقال ومؤسسات الإقراض الدولية بالعمل على تحسين مستوى المعيشة وخفض الفوضى في الدخول وكبح جماح المتغولين.
 
سادساً: عرضت دول أوروبية والولايات المتحدة خبراتها في تطوير أجهزة الشرطة وإقامة علاقات تعايش واحترام متبادل مع المواطنين وغرس قيم التحضُّر والإنسانية. وقد أخذت دول عدة في القارة بهذه التجارب لتزيل السند الأهم والأقوى، في أميركا اللاتينية كما في أي مكان، لدعم الاستبداد وهيمنة أباطرة الفساد.
 
يأمل المختصون في شؤون أميركا اللاتينية أن تكون العقود الأخيرة من الاستقرار النسبي قد أسست لثقافة ديموقراطية وليبرالية تتمكّن من التصدي لأسباب وظروف استجدّت في السنوات القليلة الماضية. أخشى أن يكون بعضها وراء نُذُر عودة بعض مظاهر عدم الاستقرار وسلوكيات الاستبداد التي تهدد بالتفاقم في العام الجديد.

التعليقات معطلة.