لا يوجد بكاء جماعي كل بكاء بعيون “نحن” هو تمثيل ديني أو سياسي أو ثقافي
الاجتهاد الذي مصدره “أنا” يشبه العزف على البيانو الذي لا يمكنه أن يكون إلا بيدين (أ ف ب)
ما العلاقة ما بين “أنا” Je الفرنسية ضمير المتكلم الغائب والمكمم دائماً و”نحن” Nous الفرنسية ضمير الجمع الصارخ الوجود دائماً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟
تظل “أنا” كلمة تحمل إيحاءات وتأويلات مخيفة في مجتمعاتنا، نعم “أنا” مخيفة وخطرة على النظام المفروض، النظام الديني الوراثي والنظام السياسي المورث أو الانقلابي والنظام الثقافي الأبوي الهجين.
“أنا” هي التابو الذي يضاف إلى سلسلة التابوهات والممنوعات والحواجز المختلفة والمتراكمة الموجودة في الدين والسياسة والجنس واللغة والهوية والعقل.
الجميع، وبشكل سري وعلني، متفق على ضرورة وواجب محاربة “أنا”، حرب ضدها على كل الجبهات في السياسة والمعرفة والإبداع والحرية وفلسفة الحياة.
هذه الحروب المعلنة ضد “أنا” منذ 14 قرناً سببها أنها تقف دائماً في وجه “نحن”، تقف ضد مفهوم “القطيع”.
منذ الصغر، في الأسرة ثم الشارع والمسجد والمدرسة والجامعة ثم في الحزب يتعلم العربي والمسلم أن الاختباء والاحتماء في “نحن” هو الطريق الأمثل إلى “راحة البال” وإلى “العيش الهنيء”.
الفرد في المجتمعات العربية والإسلامية يعيش حياته بالنيابة، فالجماعة “نحن” هي من تعيش نيابة عنه، عن “أنا”.
في مجتمعاتنا يمتد هذا من بلدان شمال أفريقيا وحتى الشرق الأوسط، يحيل استعمال “أنا” أخلاقياً وبشكل مباشر إلى مفهوم “الأنانية” قصداً، وبما أن “الأنانية” تحيل إلى معنى “قبيح”، وباعتبار أن “أنا” هي مصدر ذلك، إذاً وجب تقبيح “أنا” والتضييق عليها ولعنها.
أن يسكن المواطن في “أنا”، فيها ولها ومن أجلها، فهو في عيون المجتمع “أناني” وغير صالح للمجتمع وللمجموعة، إذاً مكانك هو العزل والتهميش من قلب القبيلة من “نحن”.
يختفي في هذا الخوف المعمم من كلمة “أنا” شرطي رقيب لا تغمض له عين الذي يعمل على أن يظل المجتمع يتحرك في شكل “قطيع”، يساق إلى المسلخ وهو سعيد.
ألم يعلمونا حتى التخمة قبول الهزيمة مهما كانت فداحتها بترديد عبارة، “إذا عمت الهزيمة خفت”. إنها التربية التي تريد أن تقنعنا بأن “هزائمنا” حين تكون جماعية يمكننا تحملها وحملها، وحين تكون هذه الهزائم جماعية مرتبطة بـ”نحن” فهي هزائم مصدرها القدر والمكتوب، وتقبلها يكتسب طابعاً دينياً محتماً.
إن المجتمع الذي لا يتمتع فيه المواطن بامتلاكه حق التصرف في “أنا” هو مجتمع فاقد لحس الإبداع، مجتمع ضد الإبداع، لأن الإبداع هو أولاً وقبل كل شيء حال فردية من طاقة “أنا”، الإبداع هو وليد “أنا” بكل نرجسيتها، بكل هبلها وجنونها، بكل جرأتها ومغامراتها.
الدموع، دموع الفرح أو الألم، هي ضريبة “أنا” أمام شقاء تجربة حياتية قاسية أو مبهجة بكل أحاسيسها وخوفها وشجاعتها وانكساراتها وأحلامها.
لا يوجد بكاء جماعي، كل بكاء بعيون “نحن” هو تمثيل ديني أو سياسي أو ثقافي.
لا توجد دموع جماعية تسقط كالمطر من سماء عيون “نحن” القبيلة أو الجماعة أو الحزب، كل دموع جماعية هي تهريج، ملح الدمع الصادق لا ينبع إلا من عين “أنا” الممرغة في التجربة بما فيها من خطأ وصحيح، مع نسبية الخطأ والصحيح دائماً.
كلما غاب حضور “أنا” من المجتمع وفي المقابل ساد طغيان “نحن”، غابت الحرية الفردية التي هي أساس الاجتهاد والإبداع والسعادة.
“أنا” هي مصدر العبقرية من دون منازع ومن دون شك، لا عبقرية بصيغة الجمع، فالشعوب ليست عبقرية بما هي جماعة أو مجموعة بشرية، بل الشعوب تكون ناجحة وقوية بشكل جماعي كلما سمحت للأذكياء فيها فرادى، أي “أنا”، أن يعبروا عن ذكائهم. وفي مرحلة لاحقة، يستفيد المجتمع من هذا الذكاء الذي مصدره “أنا” ويتحول عبر المؤسسات الاقتصادية والتعليم والإعلام والتكنولوجيا من حال فردية إلى حال ثقافة وسلوك جمعي أو جماعي أو مجتمعي.
من هنا جاءت العبارة، “هذا شعب عبقري”، وهي عبارة يراد منها “هذا شعب يسمح للعبقريات الفردية بالنمو والظهور والاجتهاد”، شعب تحترم فيه “نحن” الوجود الحاسم لـ”أنا”، “هذا الشعب عبقري” لا لأنه يبدع بشكل جماعي أي بصيغة “نحن”، لكن لأنه يستفيد من الذكاء الفردي أي بصيغة “أنا”، وهو شعب ذكي لأنه تمكن من اكتشاف مقدرات “أنا” العبقرية.
في المجتمعات العربية والإسلامية التي تحارب طاقة “أنا” يتساوى الكسول والمجتهد، يتساوى الغبي والذكي، فـ”نحن” تخفي وتحمي الخمول والاتكال والغباء.
حين يريد مجتمعنا محاربة عبقرية “أنا” يلصق بها مجموعة من الأوصاف والنعوت، على سبيل المثال، “أنا ومن بعدي الطوفان”، “أنا وأعوذ بالله من قولة أنا”.
بمثل هذه النعوت الملحقة بـ”أنا” يريد مجتمع “نحن” أن يقنعنا بأن “أنا” مفرغة من فلسفة “التكاتف”، وما “التكاتف” في نظر “نحن” إلا “التكتاف”، و”التكتاف” تعني التكبيل والربط.
إن ثقافة “نحن” حولت أولادنا إلى ملكية خاصة، أولادنا ملك لنا، فهم ملك للأبوين، ثم للأسرة بما فيها العم والجد والخال، ثم ملك للمجتمع بما فيه الجار والجزار والمعلم، فهم بعين “نحن” ليسوا ملكاً لأنفسهم، لـ”أنا” التي في كل واحد منهم.
يبدو من يدافع عن تحرير “أنا” في مجتمعاتنا العربية والمغاربية شقياً شقاءً وجودياً متواصلاً، فهو عليه اللعنة التي تشبه لعنة سيزيف يحمل الصخرة حتى أعلى الجبل ثم تهوي ويعيد الكرة ثانية وأخرى.
حين تموت طاقة “أنا” يموت الحلم نهائياً لأن الحلم هو فردي أساساً، هو من طبيعة “أنا”، لا يمكننا تصور مجتمع يحلم حلماً مشتركاً، هذه أوهام السياسة والأخلاق والأيديولوجيا.
إن السعادة الحقيقية تموت بمجرد ربطها بـ”نحن”، فالسعادة فلسفياً هي حال مفردة، هي من طاقة “أنا”، وكل سعادة مرتبطة بـ”نحن” هي سعادة سياسية وثقافية ودينية.
الاجتهاد الذي مصدره “أنا” يشبه العزف على البيانو الذي لا يمكنه أن يكون إلا بيدين، يدا “”أنا”، لا يمكننا تصور عزف على البيانو بأربعة أيادٍ أو أكثر، فكلما كان العزف بأربعة أياد أي بـ20 إصبعاً كان الخلط والفوضى والضجيج بديلاً عن الإبداع.
كلما تغولت فلسفة “أنا” وعظم حضورها وتراجع سلطان “نحن”، تمكن المجتمع من إسقاط أشكال من العبوديات التي تحمل أقنعة مختلفة.
لتحقيق عودة “أنا” لمركز المجتمعات العربية والإسلامية نحن بحاجة إلى كاسحة ألغام على المستوى السياسي والديني والثقافي.
فكلما ظهر لسان “أنا” في الدين قالوا، هذا كافر.
كلما ارتفع صوت “أنا” في السياسة قالوا، هذا خائن.
كلما سمع صوت “أنا” في الثقافة والإبداع قالوا، هذا شاذ.