من جديد تتبدل التحالفات بين ليلة وضحاها، فبعد أقل من أسبوعين على يومٍ دامٍ عاشته قوات الأسد بسبب تفكيرها في مهاجمة مواقع القوات الكردية قرب دير الزور، ها هم الأكراد أنفسهم يجدون في النظام السوري «طوق النجاة» الوحيد الذي ينقذ عفرين من القوات التركية. فماذا يجري في عفرين؟ وكيف يمسي نظام الأسد عدوًا للأكراد٬ ثم يصبح حليفًا؟
لا أمان في عرين «الأسد».. الأكراد يتلقفون «هدية» الثورة
حتى ولو اقتضت ضرورات السياسة التظاهر بذلك أحيانًا، يصعب على قطاع عريض من الأكراد السوريين التعامل مع نظام الأسد باعتباره صديقًا أو حليفًا حقيقيًا، إذ إن الذاكرة الكردية تستحضر الماضي القريب الذي تعامل فيه نظام الأسد -الأب والابن- مع أكراد البلاد باعتبارهم «أجانب» أو «عملاء محتملين» للقوى الخارجية، وقد كان ذلك امتدادًا لتخوفات القوميين العرب من احتمال استخدام الأكراد أداةً لمشروعات انفصالية تقوض وحدة البلاد.
أدى ذلك إلى انتهاج سياسات إقصائية بحق الأكراد، إذ تم الامتناع عن تسجيل كثير من أكراد الشمال في السجلات المدنية، خاصةً الذين ينحدرون من أصول تركية مهاجرة، واعتبر هؤلاء «أجانب تركيا»، كما حدثت محاولات لاستبدال السكان الأكراد بآخرين عرب في المناطق الحدودية، بهدف تغيير التركيبة السكانية للمناطق الكردية، في ما عُرف بمشروع «الحزام العربي».
اقرأ أيضًا: الأسد لن يترك الأرض والنفط معهم.. هل حان وقت القتال بين الأكراد والنظام السوري؟
أدت تلك السياسات وغيرها إلى شعور قومي نما لدى الأكراد بالاضطهاد، ومن ثم التمايز عن المحيط السوري، وهو ما هيأ الأجواء لاندلاع «انتفاضة الكرد» في وجه نظام الأسد الابن عام 2004، والتي نجح النظام في إخمادها بالقوة، ولا تزال أحداث تلك الأيام حاضرة في الوجدان الكردي إلى اليوم، تُجدد جذوات الغضب ضد الأسد ونظامه٬ وتُذكر الأكراد بمظالمهم.
وقد جاءت أحداث الثورة السورية، التي اندلعت في مارس (آذار) 2011، لتقدم للأكراد هدية على طبق من ذهب، إذ تمكنت القوى الكردية، لا سيما «حزب الاتحاد الديمقراطي» من صياغة أجندة خاصة بها، بعيدًا عن الأسد وعن القوى المناهضة له على حد سواء، أعلن الحزب «الإدارة الذاتية» في بعض المناطق ذات التواجد الكردي، ونجح في بناء شبكة تحالفات مع قوى إقليمية ودولية، لا سيما مع الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تتطلع لشريك موثوق على الأرض.
وبمساعدة الأمريكيين، نجح الأكراد في طرد تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» من العديد من المناطق، الأمر الذي زاد من «بريق» القوات الكردية، بحيث صارت «وحدات حماية الشعب لاعبًا رئيسيًّا في كل معادلات شمال سوريا تقريبًا، لكنه في الوقت ذاته أثار تخوفات نظام الأسد، بعدما صارت الطموحات الكردية في دولة مستقلة -أو شبه مستقلة- في الشمال السوري قاب قوسين أو أدنى من التحقق، وبمباركة أمريكية.
«ثارات» الكرد القديمة تطفو على السطح
«شهر العسل» بين الجانبين لم يستمر طويلًا، إذ بدأت بين الحين والآخر تظهر اشتباكات متقطعة بين القوات الكردية، وبين النظام السوري والميليشيات المرتبطة به، وتجددت هذه الاشتباكات كثيرًا، ليسقط فيها قتلى وجرحى من الجانبين، لا سيما مع توطد التحالف بين قوات سوريا الديمقراطية، التي يهيمن عليها المكون الكردي، وبين واشنطن، الأمر الذي كان يثير تخوفات نظام الأسد ورعاته الإيرانيين والروس.
الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني (الأسايش) صعّد في الآونة الأخيرة من أعماله الاستفزازية في مدينة الحسكة، كالاعتداء على مؤسسات الدولة٬ وسرقة النفط والأقطان، ما استدعى ردًّا مناسبًا من قبل الجيش العربي السوري باستهداف مصادر إطلاق النيران٬ وتجمعات العناصر المسلحة المسؤولة عن هذه الأعمال الإجرامية. *من بيان للجيش السوري يعلن فيه قصف تجمعات كردية في الحسكة
وقد شهدت الأشهر الماضية تصعيدًا كبيرًا بين الجانبين؛ إذ تبادل كل من الأسد والميليشيات التركية الاتهامات بالخيانة، في تصريحات شديدة اللهجة، إذ قال الأسد معرّضًا بقوات سوريا الديمقراطية: «كل من يعمل لصالح الأجنبي، خصوصًا الآن تحت القيادة الأمريكية وضد جيشه وضد شعبه هو خائن، بكل بساطة هذا هو تقييمنا لتلك المجموعات».
لترد الميليشيات الكردية الهجوم بالهجوم في بيان ذكرت فيه: «نعتقد أن بشار الأسد وما تبقى من نظام حكمه هم آخر من يحق لهم الحديث عن الخيانة وتجلياتها، هذا النظام هو من فتح أبواب البلاد على مصراعيها أمام جحافل الإرهاب الأجنبي التي جاءت من كل أصقاع الأرض، كما أنه هو بالذات الذي أطلق كل الإرهابيين من سجونهم ليوغلوا في دماء السوريين».
وفي الثامن من فبراير (شباط) الجاري، نفذت طائرات أمريكية غارة جوية شمال شرق دير الزور، استهدفت قوات موالية للأسد، مودية بأكثر من 100 قتيل -تفاوتت تقديرات الخسائر التي لحقت بقوات الأسد من جراء تلك الغارة، كما تدور أحاديث حول مرتزقة روس كانوا من ضمن ضحايا الهجوم-، واتهم الجانب الأمريكي تلك القوات بأنها كانت تستعد لشن هجوم على مقر قوات سوريا الديمقراطية، وتشير تلك الحادثة إلى التباعد بين أجندتي نظام الأسد والميليشيات الكردية، وإلى المدى الذي يمكن أن تصل إليه الاصطفافات المختلفة لكلا الجانبين.
الأكراد «يستنجدون» بعرين الأسد.. ما الذي يحدث بالضبط؟
«أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب»، ربما يفسر هذا المثل الشعبي ما تفعله «وحدات حماية الشعب» الكردية كلما وجدت نفسها مغلوبة على أمرها أمام الهجمات التركية، التي تستهدف الخطط الكردية في الشمال السوري، «ابن العم» المقصود هنا هو «النظام السوري» الذي -برغم العداء بين الجانبين كما ذكرنا سابقًا- لا تمانع القوات الكردية من الاستنجاد به إذا حمي الوطيس، ولاحت في الأفق هزيمتها أمام «الغريب»، أي الأتراك وحلفائهم من «الجيش السوري الحر».
ففي مارس 2017، مثلًا، وفيما كانت القوات التركية والجيش السوري الحر يخوضون المعارك للسيطرة على مناطق من «مجلس منبج العسكري» شرقي مدينة الباب، ضمن عملية «درع الفرات»، قررت الفصائل الكردية -والفصائل العربية المتحالفة معها- أن تسلم عددًا من القرى إلى قوات النظام، باعتباره «أهون الشرين» إذا ما قورن بتركيا وحلفائها، وحسبما علق أحد المسؤولين بمجلس منبج العسكري على «الصفقة» فإن هدف ذلك كان «الحد من التمدد التركي، واحتلالها للأراضي السورية٬ وتجنب إراقة دماء المدنيين».
ويبدو أن السيناريو ذاته قد يتكرر في مقاطعة عفرين الخاضعة للسيطرة الكردية، والتي يشن عليها الجيش التركي منذ أسابيع حملة عسكرية حملت اسم «غصن الزيتون»، إذ وبعد جولات من المباحثات بين الجانبين برعاية روسية أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي التوصل إلى اتفاق مبدئي مع نظام الأسد، يقضي بدخول قوات الأخير إلى عفرين، لمنع الدخول التركي إليها، وهو الأمر الذي أكدته القناة الإخبارية السورية بعد ساعات قليلة؛ إذ أعلنت أن «قوات شعبية ستصل إلى عفرين خلال الساعات القليلة القادمة لدعم صمود أهلها».
لكن لم تكد تمر ساعات حتى خرج نائب رئيس الوزراء التركي «بكر بوزداغ» ليؤكد أن «دخول قوات النظام إلى عفرين سيؤدي إلى كارثة»، وأن العملية ستستمر كما هو مخطط لها، ليؤكد أردوغان الأمر نفسه خلال اتصال هاتفي أجراه مع بوتين، قبل أن يصرح بأن الاتصالات التركية قد نجحت في وقف خطط انتشار قوات النظام في عفرين، وأن «الأسد سيواجه عواقب دعمه لوحدات الحماية الكردية».
لكن تظل موافقة تركيا على تسوية كهذه قائمة، لا سيما إذا تعرضت لضغوط روسية، إذ سيكون نظام الأسد حينها «أهون الشرين» وتجدر الإشارة هنا إلى أن وزير الخارجية التركي قد أبدى أمس موافقة بلاده على دخول النظام إلى عفرين، بديلًا للميليشيات الكردية، إذ قال خلال مؤتمر صحافي مع نظيره الأردني في عمان: «نحن ندعم وحدة الأراضي السورية، وإذا تدخل النظام لإنهاء الإرهابيين في عفرين فنحن نتفق معه».
اقرأ أيضًا: بعد دعم الأسد لأعدائه السابقين «الأكراد».. ما مصير عملية «غصن الزيتون» التركية؟
وكانت تركيا قد وافقت قبل ذلك على المبدأ نفسه بالنسبة لمنبج، حين صرح رئيس وزرائها «بن على يلدرم»: «لا ننظر كتطور سلبي إلى دخول الجيش السوري لمنبج وخروج وحدات الأكراد السوريين من المدينة، فالأراضي السورية يجب أن تكون للسوريين».
وعبر اتفاق كهذا -إن تم- فقد يتمكن نظام الأسد من ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، إذ سيجري تقويض الطموحات التركية في الشمال السوري، والتي لا يأمن الأسد جانبها أو مآلاتها، فمن شأن السيطرة على عفرين وفق بعض التقديرات، أن يمهد لشن عمل عسكري على مدينة إدلب من كافة المحاور للقضاء على معارضي الأسد هناك.
وعما سيخسره الجانب الكردي من فقدان السيطرة على عفرين، التي حاول الاستبسال في الدفاع عنها من قبل، يقول عضو المكتب الإعلامي لرابطة المستقلين الكرد «آزال عثمان»: «بلا شك هي مجازفة، لكنها أفضل من المجازفة بمجابهة الجيش التركي، لكن تسليم عفرين للنظام٬ وسحب المقاتلين إلى جبهات قتال التنظيم؛ سيزيد من رصيد حزب الاتحاد الديمقراطي لدى الولايات المتحدة، ورغم ذلك فخسارة عفرين بالنسبة للوحدات الكردية ليست بالأمر السهل، لأن خسارتها تعني خسارة مصدر تمويل ضريبي، وخسارة ورقة ضغط على تركيا، وكذلك خسارة لتجربة حكم إدارية مميزة».