أنت لاجئ ولدتَ في الفراغ

1

سمير الزبن
 
عاش الفلسطينيون في بلدان لجوئهــــم، حياة لا تشبه حياة الآخرين. الإحـــساس بالغربة الدائمة كان عنوانها الرئيــسي، وهو شيء لا يمكن تفسيره بسهولة. مثلاً، عندما أشرح للسويدي أني أمضيت عمري لاجئاً في سورية التي ولدت فيها، ولم أصبح سورياً بالجنسية في الأقل، يصاب بالدهشة، ويعتقد أن ما أقوله خطأ لقلة معرفتي باللغة السويدية، وعندما يعرف أن ما أقوله حقيقة، وليس خطأ في الترجمة، لا يفهم ذلك، لكنه يواسيني ويقول لي: حسناً، بعد وقت قصير ستحصل على الجنسية السويدية، فأصاب بمزيد من الإحباط، فهنا في السويد أيضاً لا أنتمــــي إلى مكان، فيكتب على إقامتي «statslös» يعني: بلا وطن، لا أنتمي إلى مـــكان في خريطة العالم، وهذا يشعرني بأني ولدت في الفراغ. ليس لأني معجب بالأوطان، ولكن أن يكون للإنسان وطن ويحمل جنسيته، فهذا حق من حقوقه وفـــق ما تقول شرعة الأمم المتحدة. كيـــف تكون غريباً طوال الوقت، في بلد تولـــد فيه وتعيش فيه وتعمل فيه طوال حيـــاتـــك، من دون أن يسمح لك بالانتماء إليه، بحجة حماية هويتك الأصلية، وحفظ حقك في العودة إلى فلسطينك؟!
 
لم أع كيفية صيرورتي فلسطينياً، وأنا الذي ولدت في المنافي خارج فلسطين، وفي مخيم اليرموك جنوب دمشق، الذي أصبح فيه السوريون أكثر من الفلسطينيين مع الوقت، إلا عندما شهدت كيفية صيرورة أولادي فلسطينيين مثلي.
 
يضطر اللاجئ دائماً لتعريف نفسه بالسلب. عندما يبدأ أولاده طرح أسئلتهم الفضولية، عن مكان انتمائهم الأصلي، يجد نفسه متورطاً في شرح الصراع الطويل والمرير مع إسرائيل التي اقتلعته من أرضه ورمته في المنافي ومنعته من العودة. كل هذا الشرح، لأنك لا تجد جواباً بسيطاً عن سؤال بسيط يطرحه طفلك: لماذا يا أبي لا نستطيع الذهاب إلى المكان الذي نتحدّر منه، مثل كل أصدقائي السوريين؟ بماذا يمكن لاجئاً فلسطينياً أن يجيب طفله عن سؤال كهذا؟!
 
عندما بلغ ابني المولود في 1991، سن الرابعة عشرة، ذهبنا للحصول على هوية، هي في الحقيقة كما هو مكتوب في ترويستها «بطاقة إقامة موقتة للفلسطينيين». هناك خانة في طلب الهوية، تطلب تحديد سنة اللجوء. عندما سألت الموظف ما المقصود؟ قال: عام 1948. اعتقدت أنه يسخر. قلت له: يا رجل، أنا أبوه لم أكن ولدت بعد. لكنه أصرَّ، هكذا هي التعليمات. ملأت خانة تاريخ لجوء ابني المولود في 1991 بتاريخ لجوء جده في 1948، أي أن ابني لجأ قبل ولادته بثلاث وأربعين سنة وقبل ولادتي أنا بست عشرة سنة.
 
في حياة اللاجئين مفارقات لاذعة وساخرة كثيرة من هذا النوع. لذلك، ليس من الغريب أن يحمل اللاجئ الفلسطيني مفتاح بيته في فلسطين، وعندما يُهجّر مرة أخرى أن يحمل مفتاح بيته في مخيم اليرموك أو خان الشيح أو حندارات. واللجوء لم يعد حكراً على الفلسطينيين، فهناك ملايين السوريين الذي باتوا يحملون مفاتيح بيوتهم، وسبقهم مئات آلاف من اللبنانيين والعراقيين وغيرهم، وتخيل معي الكم الهائل من حكايا القسوة والمعاناة التي تختزنها تجارب اللاجئين الذين يقدر عددهم اليوم في العالم بـ60 مليون لاجئ وفق تقديرات الأمم المتحدة.

التعليقات معطلة.