أنقرة بين الكرملين والبيت الأبيض

1

 
محمد سيد رصاص
 
 
كانت مساعدة السوفيات لمصطفى كمال (أتاتورك لاحقاً) أساسية في هزيمة جيوش الحلفاء الغربيين المحتلين لتركية الحالية في فترة 1920 إلى 1922، وهو ماساهم بالنجاح في اعلان الدولة التركية الحديثة عام 1923 إثر معاهدة لوزان التي وسعت الجغرافية التركية بالقياس إلى معاهدة سيفر عام 1920. كان رأي ستالين في النصف الثاني من العشرينيات، في ظل الحصار الغربي للاتحاد السوفياتي، أن «القلعة المحاصرة» لا يمكن فك حصارها سوى من المنفذين التركي والصيني، لذلك تغاضى عن قمع أتاتورك للشيوعيين وحاول اجبار الشيوعييين الصينيين على الاندماج في «الحزب الصيني القومي – الكيومنتانغ» بزعامة شيانغ كاي شيك. لعب الأتراك على خوف الغرب من تكرار حلفهم مع الألمان في الحرب العالمية الأولى في حرب عالمية ثانية كانت غيومها تتجمع بالنصف الثاني من الثلاثينيات، لذلك باعوا حيادهم لباريس بأخذ لواء اسكندرون وسلخه عن سورية المنتدبة عليها فرنسا وهو ماكان مخالفاً للمادة الرابعة من ميثاق الانتداب الموقع بين فرنسا وعصبة الأمم: «دولة الانتداب مسؤولة عن عدم التنازل أو التأجير بأي شكل لقطعة من أراضي سورية ولبنان التي وضعت تحت إدارتها لأية دولة أجنبية». في عام 1945 ومع الانتصار على هتلر طالب السوفيات بقواعد عسكرية في مضيقي البوسفور والدردنيل وهو مارفضته أنقرة مدعومة من واشنطن، وعندما أعلن الرئيس الأميركي ترومان في آذار (مارس) 1947 «مبدأ ترومان»، الذي يضمن الحماية الأميركية من التمدد الشيوعي وهو ما كان الطلقة الأولى في الحرب الباردة، فإن العين الأميركية كانت على تركية واليونان. في صراع القطبين الأميركي والسوفياتي انحازت أنقرة لواشنطن، لذلك رأينا مع انضمامها لحلف الأطلسي – الناتو كيف كانت تركية أساسية في الخطط العسكرية – الأمنية – السياسية الغربية من أجل الحاق الشرق الأوسط بمنظومة «الناتو» بمواجهة السوفيات: مشروع قيادة الشرق الأوسط – 1951، ومنظمة الدفاع عن الشرق الأوسط – 1952، والطوق الشمالي: تركية – إيران – باكستان 1953، وحلف بغداد – 1955.
 
 
في تشرين أول (أكتوبر) 1962 مع وصول البيت الأبيض والكرملين لحافة الصدام النووي بسبب الصواريخ السوفياتية في كوبا، فإن المقايضة من أجل اطفاء النار لم تقتصر على سحب خروتشوف للصواريخ مقابل تعهد الرئيس الأميركي كينيدي بعدم السعي لاسقاط فيديل كاسترو، بل شملت سحب الأميركان لقواعد التنصت وللصواريخ المتمركزة عند الحدود التركية – السوفياتية.
 
مع انتصار البيت الأبيض على الكرملين في الحرب الباردة بخريف 1989 أصبحت أهمية تركية أقل عند واشنطن وليست بمثل ماكانت في الحرب الباردة. حاول الأتراك زيادة قيمتهم من خلال طرح فكرة «عالم تركي يمتد من بحر إيجة حتى تركستان الصينية»، وهي فكرة قدمها الرئيس التركي تورغوت أوزال قبيل وفاته عام 1993، لاستيعاب الفراغ السوفياتي في الجمهوريات الاسلامية ذات الثقافة التركية: أذربيجان – تركمانستان – أوزبكستان – كازاكستان – قرغيزيا. لم تنجح فكرة أوزال ولم تسوق عند الأميركان، وقد كان موت هذا المشروع، مع سد أبواب الاتحاد الأوروبي أمام الأتراك، مترافقاً مع صعود الاسلاميين الأتراك، أولاً نجم الدين أرباكان في التسعينات، ثم تلميذه رجب طيب أردوغان. حاول أردوغان، في ظرف الصدمة الأميركية إثر 11 سبتمبر 2001، تسويق اسلاميته كـ«نموذج أميركي للعالم الاسلامي» في مواجهة تنظيم «القاعدة». تعاطى الأميركان بإيجابية مع هذا الطرح الأردوغاني، الذي كان يشمل تسويق «التنظيم العالمي للإخوان المسلمين» عند البيت الأبيض، وقد ظهرت ترجمات ذلك عام 2005 من خلال الضغط الأميركي على الرئيس المصري حسني مبارك لمشاركة «الاخوان المسلمون» في انتخابات مجلس الشعب، ثم في مشاركة الفرع الاخواني العراقي، أي «الحزب الاسلامي»، في وزارة نوري المالكي في أيار(مايو) 2006 وهو ما كسر مقاطعة سنة العراق للعملية السياسية التي كانت منذ عام 2003 برعاية أميركية – إيرانية في عراق مابعد صدام حسين. في عام 2011 ومع الانفجارات في خمس جمهوريات عربية ظهر تحالف أوباما – أردوغان كظهير لتوصيل «الاخوان المسلمون» للحكم في تونس ومصر أوللمشاركة به في طرابلس الغرب وصنعاء وفي تزعيمهم المعارضة السورية من خلال «المجلس الوطني السوري».
 
هنا، مع الغطاء الأميركي لعملية اسقاط حكم «الاخوان المسلمون» في مصر في 3 يوليو 2013، والذي يقال أن ذلك حصل بضغط وزارة الدفاع (البنتاغون) من دون رضا البيت الأبيض، من الملاحظ دخول العلاقات التركية – الأميركية في التوتر والافتراق، وهو ماظهر أساساً في الملف السوري. إثر فشل محاولة الانقلاب العسكرية التركية في 15 تموز (يوليو) 2016، والتي هناك مؤشرات كثيرة عن رضا أميركي عنها،اتجه أردوغان نحو موسكو، وقد كانت مساهمة الأتراك أساسية في سقوط حلب والغوطة وشمال حمص من أيدي المعارضة السورية المسلحة، ولولا أنقرة ماكانت موسكو قادرة على إنشاء «مسار أستانة» ولا على جعل مفاوضات جنيف تقلص إلى «السلة الدستورية» من دون السلال الثلاث الأخرى، وهو ماتم تكريسه عبر «مؤتمر سوتشي للحوار» في 30 كانون ثاني (يناير)2018. قبض الأتراك من الروس ثمناً مرتفعاً مقابل ذلك، أولاً شريط جرابلس – الباب – إعزاز (2016) ثم عفرين (كانون ثاني 2018) ثم اتفاق ادلب بين بوتين وأردوغان (17 أيلول 2018). كان ابتعاد أردوغان عن واشنطن سببه تخلي الأخيرة عن تحالفها مع «الإخوان المسلمون»، وكان اقترابه من موسكو بسبب اتجاه أميركي لتكريس شبه دولة للفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في شرق الفرات السوري منذ أيلول (سبتمبر) 2014.
 
في 19 كانون أول (ديسمبر) 2018أعلن الرئيس دونالد ترامب عن قراره بسحب القوات الأميركية (خمسة آلاف جندي أو متعاقد) من الأراضي السورية. في نيسان (إبريل) الماضي أبدى نية في ذلك، ثم مالت الموازين لصالح البنتاغون الذي كان يرى البقاء في سورية، وفي آب (أغسطس) تم الاعلان في واشنطن عن أن البقاء في سورية مرهون بتحقيق أجندات ثلاث: انهاء «داعش» – انهاء الوجود العسكري الايراني والموالي لطهران في سورية – تنفيذ تسوية سياسية سورية على أساس القرار2254. يبدو ترامب وقد خرج منتصراً في معركته ضد البنتاغون وقد أعلن غداة قراره، في تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، بأن الولايات المتحدة لن تكون «شرطي الشرق الأوسط». على الأرجح هو اختار أردوغان وترك صالح مسلم لمصير الملا مصطفى البرزاني إثر اتفاقية الجزائر بين شاه ايران وصدام حسين عام 1975. من الممكن أن تكون حساباته بأن هجوم تركي وشيك على شرق الفرات ،مع بقاء القوات الأميركية هناك، سيوصل التوتر الأميركي – التركي إلى ذروة قد تدفع أردوغان لترك عضوية حلف الأطلسي. ترامب يراهن بقراره على صدام روسي – تركي في سورية وهو بالتأكيد قد راقب الغيظ الروسي المكتوم من عدم تنفيذ أردوغان لبنود اتفاق إدلب مع بوتين، وبالتالي هناك مراهنة أميركية على فرط مسار «أستانة» و«ثلاثي سوتشي». بالتزامن مع قرار ترامب كان هناك ضغط أميركي كبير على ديمستورا من أجل عدم قبول مقترحات موسكو لمرشحي المجموعة الثالثة الخاصة باللجنة الدستورية السورية، ما أدى لفشل تشكيل الأخيرة. عبر هذا وذاك يقلب الأميركان الطاولة في الملف السوري ويعيدون الأزمة السورية إلى المربع الأول. في الموضوع الايراني لن يتجه ترامب لسياسة المهادنة وكسر سياسة الصدام مع طهران التي بدأها مع سحب توقيع واشنطن على اتفاق 2015 النووي. يمكن للانسحاب الأميركي من سورية أن تكسب طهران منه على المدى القصير ولكن مسار الأمور من المحتمل كثيراً أن يؤدي لتناقضات إيرانية مع موسكو وأنقرة، ومن المرجح أن موسكو لن تقبل بعد خروج واشنطن من سورية بشريك لها في الملف السوري، لا من شركائها الأميركان في القرار2254، ولا من شريكيها التركي والايراني في «الأستانة» و«سوتشي».

التعليقات معطلة.