أهلاً بكم في «عهد الذكاء الحر»

3

د. ياسر عبد العزيز

لا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع نقداً أو تحذيراً من خطورة المآلات التي يمكن أن نعاينها، في حال تُرك الذكاء الاصطناعي يتطور ويزدهر من دون كوابح، أو تنظيم ملائم.

إن تلك الانتقادات والتحذيرات تتسارع بلا انقطاع، وتتصاعد باطراد، لكنها لا تواكب سرعة نمو الذكاء الاصطناعي نفسه، ولا المخاطر التي ينذرنا بها تركه يتطور في خدمة نهم شركات التكنولوجيا الكبرى القائمة على عمله، والمستفيد الأكبر من ازدهاره.

وجديد تلك التحذيرات صدر عن رجل من صُناع الثورة التكنولوجية الراهنة، وأحد أبرع عرابيها، وهو الملياردير الأميركي بيل غيتس، الذي قال في مارس (آذار) الماضي: «خلال العقد المقبل، ستعني التطورات في مجال الذكاء الاصطناعي أنه لن تكون هناك حاجة للبشر ضمن معظم الأمور في العالم».

وقبل أكثر من عامين، كان مئات من الخبراء المتخصصين، الذين كان من بينهم الملياردير إيلون ماسك، قد وقّعوا عريضة، يطالبون فيها بإيقاف عمليات تطوير الذكاء الاصطناعي، لمدة ستة أشهر على الأقل، بداعي ما قد تحدثه تلك الأنظمة من مخاطر، ولإعطاء فرصة مناسبة للخبراء والمستخدمين وأفراد الجمهور، لاختبار تلك التقنيات، وتقصّي مدى ملاءمتها وقدرتها على تقديم فائدة ملموسة من دون التورط في أخطاء كبيرة.

لم تؤخذ هذه العريضة على محمل الجد، ولذلك، فإنه بعد أيام قليلة من صدورها، جاء تصريح صادم آخر، وهذه المرة من جيفري هينتون، الذي يُوصف على نطاق واسع بأنه الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، حيث عبّر عن ندمه جراء عمله الذي استمر عقوداً في تطوير آليات هذا الذكاء غير البشري، مُحذراً من «أخطار مزدادة ستأتي من عمليات التطوير المتسارعة التي تستهدف تعظيم قدراته».

ولتوضيح فكرته تلك، أكد هينتون أن منتجات الذكاء الاصطناعي تستطيع، عبر التعلم العميق واستخدام الشبكات العصبية المتطورة، أن تتجاوز مستوى المعلومات التي يحتفظ بها الدماغ البشري الراهن، وأن تطوّر آليات تفكيرها بشكل مستقل، قد يجعلها أكثر ذكاء من البشر في وقت قريب.

لم يكن تحذير هينتون مبالغة أو تهويلاً، بل حقيقة ماثلة انتظرت بياناً ودليلاً لإثباتها؛ وهو دليل يبدو أننا حصلنا عليه في وقت سابق من الشهر الحالي، عندما علمنا أن أحد المفكّرين الإيطاليين أصدر كتاباً مُهماً منسوباً إلى شخصية وهمية، قبل أن نُفاجأ بأن هذا الكتاب كان ثمرة عمل مُشترك بين هذا المفكّر الإيطالي نفسه، واثنتين من أدوات الذكاء الاصطناعي.

فعلى مدى خمسة شهور خلت، اجتهد الصحافيون الإيطاليون في محاولة للوصول إلى مؤلف كتاب «الهيبنوقراطية: ترمب – ماسك وهندسة الواقع». وهو كتاب رصين ومُصاغ بعناية ومستند إلى أدلة، يشرح فكرة هيمنة الهيبنوقراطية (الحكم باستخدام التنويم المغناطيسي) على عملية تشكيل الوعي الجمعي، وإعادة صياغة الواقع، وفقاً لسرديات متعددة ومتضاربة، تُلقي بالجمهور في أتون حالة من التشظي وعدم اليقين، وتسلب وعيه، لامتلاك زمام السيطرة عليه.

وبعد جهد كبير، نجحت صحافية إيطالية في معرفة حقيقة الكاتب المنسوب إليه تأليف الكتاب، والذي قُدم على أنه «جيانوي شون»، الفيلسوف والمُنظر، الذي وُلد في هونغ كونغ، والذي يهتم بالتقاطع بين النظرية النقدية والتقنيات الرقمية وفلسفة العقل.

فقد وجدت تلك الصحافية أن «شون» ليس سوى كاتب مُختلق ليس له وجود، وحتى صورته الشخصية المنشورة على غلاف الكتاب الخلفي، ليست سوى أحد منتجات الذكاء الاصطناعي.

وبعد هذا الاكتشاف، سيبادر صانع الكتاب الحقيقي المفكر الإيطالي أندريا كولاميديشي، إلى نشر توضيح لما أقدم عليه، وسيقول: «بعدما عرف الناس أن شون ليس شخصاً حقيقياً، بل نتيجة تعاون بين إنسان وذكاء اصطناعي، سيتضح أننا نعيش مرحلة تشهد طريقة تفكير جديدة، لا تأتي من عقل بشري واحد، بل من تعاون بين البشر والآلات. أصبح شون اليوم وسيلة لاختبار أفكار وأساليب جديدة في الفلسفة»!

سيفسر لنا هذا التوضيح بعض الأسباب التي دعت نحو خمسة آلاف كاتب ومُبدع بريطاني لتوقيع عريضة جديدة، يتهمون فيها شركة «ميتا» باستخدام نتاج عملهم في تدريب تقنيات الذكاء الاصطناعي، من دون إذن أو تعويض.

وكما قال أكثر من 150 منهم – تظاهروا أمام مقر الشركة بلندن، في وقت سابق من الشهر الحالي – فإن الشركة «تسرق كتبهم وأفكارهم… وتستخدم نتاجهم لتدميرهم».

ليس ذلك كله سوى «جرس إنذار» يقرع بعنف، وينبهنا إلى أن صناعات مثل الصحافة والكتابة والإبداع والتفكير دخلت في عهد جديد، يسميه غيتس «عهد الذكاء الحر»، حيث لن نميز فيه صحة ما نقرأه ونسمعه ونشاهده، ولن نعرف طبيعة مُنتجه على وجه التحديد، وهو عهد مذهل ومُرعب في آن.

التعليقات معطلة.