أوروبا المؤجّلة!

2

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل.
 
حازم صاغية
 
 
الضعف هنا يتعدّى الوضع الاقتصاديّ وما يترتّب عليه من ضعف عسكريّ لا يفكّ ترامب يتذمّر منه وممّا ينجم عنه من تراجع الإسهام الأوروبيّ في أكلاف الدفاع عن العالم الأطلسيّ الكلام عن أوروبا ككيان وإرادة وقوّة كثير جدّاً هذه الأيّام. إيمانويل ماكرون وأنجيلا ميركل وسواهما لا يفوّتون فرصة للتذكير بذلك. ضرورة التمايز عن أمريكا دونالد ترامب تستدعي هذا التذكير بقدر ما تستدعيه ضرورة التمايز عن روسيا فلاديمير بوتين. يستدعيه أيضاً اعتبار معنويّ: نحن قادرون على مواجهة تحدّيات في عدادها الإرهاب والأزمة الاقتصاديّة واللجوء الكثيف ورغبات بالطلاق تبدأ ببريطانيا وقد تنتهي بدول أوروبا الوسطى، بعد انقطاع حبل الودّ مع تركيّا.
 
لكنّ أكثر ما يستدعي التوكيد الراهن على الأوروبيّة ضعف أوروبا. والضعف هنا يتعدّى الوضع الاقتصاديّ وما يترتّب عليه من ضعف عسكريّ لا يفكّ ترامب يتذمّر منه وممّا ينجم عنه من تراجع الإسهام الأوروبيّ في أكلاف الدفاع عن العالم الأطلسيّ.
 
نحن أيضاً أمام ضعف سياسيّ غير مسبوق تبدو القارّة معه كأنّها مؤجّلة أو معلّقة. لنأخذ أممها الأربع الأكبر:
في بريطانيا، تقود تيريزا ماي حكومة ضعيفة ومفكّكة تستند إلى أكثريّة هي أضعف من التي استندت إليها في ظلّ ديفيد كاميرون. وزراؤها، خصوصاً وزير خارجيّتها بوريس جونسون، لا يُعتدّ بأدائهم. قيادتها هي نفسها موضع نقد وتهكّم في حزبها وعند المعارضة والإعلام، وأخبار إطاحة حزبها لها تكاد تكون يوميّة. وعلى رغم خطابها “الإيجابيّ” في فلورانسا بإيطاليا، في أيّار (مايو) الماضي، لم يتحقّق أيّ تقدّم جدّيّ في تعاطيها مع الشروط الأوروبيّة الضاغطة لإتمام الخروج من الاتّحاد الأوروبيّ، وخصوصاً ما بات يُعرف بـ “فاتورة الطلاق”.
 
حال سيّدة ألمانيا لم تعد أفضل من حال سيّدة بريطانيا. فالمستشارة أنجيلا ميركل لا تزال أكثر قادة الغرب تعبيراً عن معانٍ وقيم متقدّمة وليبراليّة. لكنّ ميركل التي فازت بالمستشاريّة للمرّة الرابعة تعاني تراجعاً في نسبة تأييدها، يوازيه تصاعد في قوّة اليمين العنصريّ ممثّلاً بـ “البديل من أجل ألمانيا”. وهي اليوم تعاني خصوصاً فشل محاولتها بناء ائتلاف حكوميّ يجمع البيئويّين الخضر إلى الليبراليّين. فالأخيرون انسحبوا بسبب ما اعتبروه انعدام ثقة بشركاء الائتلاف الموعود، وهكذا انهار التفاوض.
 
المرجّح أنّ ألمانيا باتت أمام انتخابات عامّة جديدة ونتائج غامضة يستحيل التكهّن بها الآن. ميركل نفسها أعلنت تفضيلها إجراء انتخابات كهذه على قيادتها حكومة أقلّيّة.
 
في فرنسا، يتربّع الرئيس الشابّ إيمانويل ماكرون فوق أكثريّة برلمانيّة مريحة يتمتّع بها حزبه “الجمهوريّة إلى الأمام”: 350 مقعداً من أصل 577. لكنّ برامجه الاقتصاديّة والاجتماعيّة لم تُمتَحن بعد، وبعضها لم ينطلق أصلاً. في الحالات جميعاً تبدو تلك البرامج أبطأ من التراجع الذي يضرب شعبيّته، ومن التفاهات التي تنشغل بها حياة فرنسا السياسيّة. صحيح أنّ اسم ماكرون يعود إلى الصدارة مع بعض مواقف خارجيّة، كان آخرها مبادرته السعوديّة – اللبنانيّة، لكنّ هذا لا يكفي لإطفاء التذمّر الشعبويّ الذي تعبّر عنه “الجبهة الوطنيّة”.
 
أمّا إيطاليا فمرضها عميق. إنّها لا تزال تصارع أزمة 2008 الماليّة ومضاعفاتها. رئيس حكومتها الجديد باولو جِنتِلوني (حزب ديمقراطيّ – يسار الوسط) خطا خطوات واعدة على طريق التعافي، لا سيّما في القطاع الصناعيّ وفرص العمل التي يتيحها. لكنّ الشوط الذي لا يزال مطلوباً قطعه طويل جدّاً. في هذه الغضون يرسمل شعبويّو “حركة النجوم الخمس” على الأزمة الاقتصاديّة، وهم يستفيدون من كلّ علامة بطء أو تعثّر أو انتكاس لتوسيع شعبيّتهم والانقضاض على برنامجه للإصلاح السياسيّ.
 
أوروبا اليوم، كما يرى كثيرون، مطالَبة بأن تعيد اختراع نفسها. لكنْ عليها أن تجد، قبل ذلك، مخترعين.

التعليقات معطلة.