“أشعر بجسدي يحترق” رواية بالفرنسية تُشرح جثة مجتمع غربي مضطرب
الروائية الفرنسية المغربية أوري هاجر (صفحة الكاتبة – فيسبوك)
تستند الكاتبة الفرنسية (المغربية الجذور) أوري هاجر في روايتها “أشعر بجسدي يحترق” إلى أهمية دور الأدب في حياة البشر، وتحديداً في كونه يشكل أحد أبرز العوامل المساعدة على كشف الذات، ومساعدتها على الوصول إلى التشافي. سعت الرواية إلى تحقيق هذه الرؤية لأن بطلتها تتطلع إلى النجاة من المحنة التي أودت بنفسها إليها. لكن كيف يمكن أن تحدث اليقظة في خضم دوامة كبيرة ليس من الممكن استشراف ما يأتي بعدها؟
من خلال شابة صغيرة تدعى “ليلا”، تقرر ممارسة أقدم مهنة في التاريخ، تقوم الكاتبة أوري هاجر بتشريح جثة مجتمع بأكمله، عبر إدراك علاقات الهيمنة المادية والتصدعات الاجتماعية، في واقع مأساوي خفي لنساء يعتمدن في حياتهن على تجارة الجسد. تكتب هاجر رواية مؤثرة عن صعوبة التكيف وقبول الفروق الطبقية بين الشباب، أيضاً عن وهم حرية اختيار الحياة، وكيف يُفضي هذا الوهم إلى نتائج مأساوية. تقول: “متى نُدرك أن اختياراتنا يمكن أن تتركنا متعبين ومستنزفين في جسد يهجرنا؟”.
بطلة الرواية “ليلا” البالغة من العمر ثمانية عشر عاماً، تنتقل إلى باريس لدراسة القانون. تنحدر من جذور مغربية ومن خلفية عائلية متواضعة، تعيش مع أمها المتدينة ظاهراً والمضطربة نفسياً. يبدو كل شيء في عالم “ليلا” عادياً على رغم ما فيه من صعوبات، تتشابه حياتها مع حياة آلاف غيرها من الفتيات اللواتي يحاولن إيجاد مكان لهن تحت الشمس، ضمن صراع الدراسة والعمل، الذي ينجح فيه البعض ويخفق فيه آخرون.
رواية “أشعر بجسدي يحترق” (دار إرول)
على أرض الواقع، في الجامعة تحديداً، وبعد مرور شهرين فقط، تجد “ليلا” نفسها شبه منبوذة ضمن وسط اجتماعي ينتمي إليه زملاؤها القادمون من طبقات أكثر ثراء. أما هي فتمارس أعمالاً بسيطة كي تتمكن من العيش وتسديد إيجار الغرفة التي تسكنها على سطح أحد المباني الباريسية. لا تروقها هذه الحياة لأنها تحلم بأن تعيش بخفة يمتاز بها أولئك الذين لديهم المال ووقت الفراغ.
بداية التحول
تكتب “ليلا” إعلاناً على أحد المواقع، خافية هويتها خلف اسم مستعار “فلور” (زهرة)، تقول فيه: “طالبة تبلغ من العمر 18 عاماً، تبحث عن رجل مهذب لقضاء ليلة معه”. تحدد السعر، وتلتقي بالرجال المختارين، تمضي في طريقها بدعم من نساء تصفهن بأنهن قادمات من “الجحيم”. في البداية كانت “ليلا” في حالة نشوة من إحساسها بالقوة وسهولة الحصول على المال، لكن سرعان ما يتلاشى هذا الإحساس، بل تفقد السيطرة تدريجاً على حياتها ككل، وعلى جسدها الذي صارت تحس بأنه غريب عنها وخطر، ثم تنزلق إلى الجحيم على حد تعبيرها، مع الموافقة على المشاركة في أفلام إباحية. تقول: “لأنني أفكر في الأمر، يمكنني فقط أن ألوم نفسي، وهم، الرجال بالطبع، كنت أموت لكي أراهم وهم يرمقونني بإعجاب. كانت موافقتهم مرهونة بحياتي، لذلك أعطيتهم ما توقعوا. ظننت أنني أحرر نفسي، وأبتعد عن والدتي، متحدية القواعد الاجتماعية وأعراف الأجداد. لكنني في الحقيقة تحولت تدريجاً إلى عبدة”.
مع اكتشاف هذه البيئة البائسة، تكتشف “ليلا” أيضاً طبيعة البشر وعنفهم وجشعهم وقدرتهم على إيقاع أذى لا يُحتمل على الأشخاص الأضعف.
تاريخ العنف
تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء، تُمثل المراحل الثلاث التي وصلت إليها “ليلا”. لا يمكن وصف السرد إلا بأنه دام ومرعب، بكل ما يتضمن من قسوة فادحة، مقارنة مع حداثة سن البطلة، التي لم تبتعد بعد عن سنوات المراهقة، تلك المرحلة الملغومة عند الفتيات بوجود اضطرابات جسدية ونفسية، قبل الوصول إلى مرحلة وضوح الرؤية، وتوجيه الاختيارات.
الروائية الشابة التي كشفت معاناة الطالبات (صفحة فيسبوك)
تروي “ليلا”، ذكرياتها مع سنوات البلوغ المبكرة، تستخلص دروساً من وقت كانت تتقدم فيه نحو الظلام، غير قادرة على الفهم، وتلقي نظرة بأثر رجعي على الحقائق الماضية. فالأسباب التي تحفزها تتجاوز الجانب المالي، وتتوزع بشكل قاس على مدار الرواية، تقول: “كم أثبت المستقبل لي أنني كنت مخطئة في تصديقه. أعلم اليوم أننا لا نختار هذه الأشياء”.
الرواية مكتوبة بصوت واحد هو ضمير المتكلم مما منح حميمية وتعاطفاً مع البطلة الساردة. اختارت الكاتبة أسلوباً مناسباً للموضوع، عبر لغة غير عاطفية ولا غنائية، بل محايدة، وصفية، تسرد ما حدث بمباشرة واضحة ومشاعر خالية من المواربة أو الالتفاف على الحدث، حتى في لحظات اعترافها وندمها فإنها لا تلقي المسؤولية على أحد، بل على نفسها بالمقام الأول.
يمكن اعتبار رواية أوري هاجر أنها تقدم ترشيداً غير مباشر للشابات والشبان، الذين يجدون أنفسهم في براثن لحظات ضعف وانكسار وإحباط تدفعهم إلى المضي في مسارات مهلكة للجسد والروح.
ضحية عربية
بيد أن الرواية على رغم هذا، لم تمنح جانباً كبيراً للإضاءة على رحلة اليقظة والعودة، بقدر تركيزها على خطاب نسوي، حمل كليشيهات معادية للرجال، حتى في الأوقات التي تقع فيها “ليلا” بالحب، فسرعان ما يتكشف أن الشاب الذي أحبته هو نسخة أخرى من بقية الرجال. قدمت نفسها على أنها ضحية لأنها تحمل جذوراً عربية، ولأنها تجد نفسها وسط طلاب تصفهم بأنهم أثرياء، أما هي فلا ترغب بأن تكون جليسة للأطفال أو أن تقوم بمهام يمتهنها الطلاب، بل تصف العمل بأنه سوف يمنعها من حضور الحفلات.
أغفلت الرواية العديد من الأسئلة الجوهرية والحساسة عن العاطفة، عن الوقت، عن نظرة الآخر، عن الجمال، عن الغد بعد الانغماس في هذا العالم، وبعد أن توصم المرأة الشابة بالانتماء له. ظل النص يراوح بين فكرة الضحية، والدخول إلى منطقة الخطر، إذ ليس هناك مرحلة ممتدة بين الحالتين تسمح بوجود إضاءات نفسية على واقع “ليلا”، تلك الهشاشة الملحوظة في تركيبتها، والتصدع الداخلي الناتج من العلاقات الأسرية المختلة من جهة، وعن تطلع “ليلا” إلى الطبقات الاجتماعية الأعلى من جهة أخرى. كيف للبطلة أن تعبر الخط الفاصل بجرأة كي تنتمي إلى عالم العاملات بتجارة الجسد؟ ما هي خلفية هذا التحول، وليس هناك من دفعها إليه، أو سهل لها الطريق؟ بخاصة وأنها للمفارقة تدرس الحقوق، وتدرك جيداً عواقب الأمر.
تحمل الرواية أيضاً دعوة للمرأة بأن تعيد تقييم المفاهيم الذاتية التي نشأت عليها، تلك التي تجعلها تحس بالدونية، وبانحصار قيمتها ضمن المنظور الشكلي والجسدي. لنقرأ: “لحق بي وقال من فضلك، ابتسامة صغيرة، من شأنها أن تسعدني. نظرتُ إلى الأعلى ثم نظرت نحو الرجل الذي قال هذه الكلمات؛ كان له جلد قبيح، يشبه جلد الكلب. ما الذي كان يأمل به عندما تحدث إلي؟ أن أبتسم له. بلا شك، وهذه هي المأساة المشتركة لكثير من النساء. يُتوقع منهن جميعهن التنازل لإرضاء أدنى شخص يخلط بين رغباتهن والحقائق العامة، فإذا أراد من المرأة أن تبتسم، يجب عليها الابتسام له. هل يجب أن أجيب عليه وأنا لا أعرفه؟ ما الذي يهمني أن يعتقد أنني جميلة؟ لم يكن لدي النضج، فلم أدرك أنني شعرت بالإطراء لأن الأفلام والكتب والمجلات والرسوم المتحركة والبرامج التلفزيونية والأغاني، وأغاني الأطفال والعائلة والأصدقاء والجيران، كلها دفعتني بذكاء إلى غرس فكرة أن القيمة تكمن في أن أكون جميلة”.
ربما أرادت الكاتبة تقديم صورة سردية واقعية عن هؤلاء النساء العاملات بالجنس، المنتهكات، غير المرئيات، أرادت الدفاع عنهن، عدم الحكم عليهن، ودفع القارئ إلى التعاطف معهن، إذ ما إن يمضين في الخطوة الأولى حتى ينزلقن نحو الجحيم بلا حول ولا قوة. لكن كل هذه التفاصيل من الجانب الفني والسردي، بدت في حاجة إلى مزيد من الكشف الداخلي يتجاوز تقديم شهادة عن ذاك العالم المأساوي والقابض.
في أحد اللقاءات المصورة مع أوري هاجر، ذكرت أن فكرة الرواية جاءت بعد كتابتها لمقال عن الموضوع ذاته، لكنها رغبت في توسيعه أكثر، لذا احتاجت خمسة أعوام كي تكتب هذه الرواية. وكشفت أنها قابلت فعلاً شابات واجهن مواقف مثل التي واجهتها “ليلا”.