أين الخلل؟

12

 

 

مقدمة: منذ العام 2003، يعيش العراق حالة من التشتت السياسي، والانهيار المجتمعي، والفراغ القيادي، رغم مرور أكثر من عقدين على تجربة “الديمقراطية” المدعومة دوليًا. وبرغم ما شهده الشارع العراقي من انتفاضات واحتجاجات وموجات غضب شعبي، لم تتبلور حتى اليوم بدائل سياسية حقيقية قادرة على فرض معادلة جديدة، أو حتى إقناع الفاعلين المحليين والدوليين بوجود مشروع خلاص. هذا الفشل المتراكم يدفعنا إلى التساؤل الجوهري: أين الخلل؟

 

أولاً: تشخيص الخلل

1. غياب الأيديولوجيا الجامعة

في العقود التي سبقت الغزو الأمريكي، كان الوعي السياسي العراقي محكومًا بأيديولوجيات كبرى (الشيوعية، القومية، البعثية) مثّلت مظلّة فكرية وتنظيمية لشرائح واسعة من المجتمع. ورغم الخلافات فيما بينها، فإنها كانت تؤدي وظيفة حيوية: تعبئة الجماهير، تقديم مشروع دولة، وتحقيق هوية سياسية جمعية.

بعد 2003، تلاشت هذه الأيديولوجيات بشكل شبه كلي، سواء بفعل القمع، أو التشويه، أو انقطاع التواصل الفكري بين الأجيال. ما تبقى هو خليط من الهويات الفرعية: طائفية، إثنية، دينية، عشائرية، ممزوجة بخطابات مشوشة لا تمتلك مضمونًا سياسيًا ناضجًا. النتيجة: فقدان البوصلة الوطنية الجامعة.

2. انهيار ثقة الناس في الداخل

بعد سلسلة متوالية من الخيبات والوعود الكاذبة من قبل الطبقة السياسية، أصبح المواطن العراقي يرى أن لا جدوى من أي حراك من داخل النظام أو حتى من معارضة مشتتة.

الحركات الاحتجاجية، خصوصًا “تشرين”، وإن كانت تحمل طاقة أخلاقية جبّارة، لكنها فشلت في التحول إلى مشروع سياسي منظم ومتكامل. بقيت رد فعل على الواقع، لا فعلاً مبادراً يملك أدوات التغيير.

3. غياب القيادة البديلة

الأزمة العراقية لا تكمن فقط في فشل الطبقة الحاكمة، بل في غياب قيادة وطنية بديلة تمتلك الشرعية الشعبية، والرؤية السياسية، والقدرة على بناء التنظيم، والتواصل مع الداخل والخارج بفعالية . الأفراد موجودون، والوعي يتنامى، لكن القيادة بوصفها حالة جماعية منظمة ما تزال مفقودة.

4. تحوّل الخارج إلى مركز قرار داخلي

حين يغيب البديل من الداخل، يصبح الخارج هو من يقرر بقاء أو زوال النظام. العراق يعيش في معادلة دولية معقدة، يتقاطع فيها الأمريكي والإيراني والتركي والخليجي، وتكاد واشنطن تكون هي الراعي الفعلي للمنظومة السياسية، ليس حبًا بها، بل لانعدام البديل المقبول. وهذا ما جعل القوى الحاكمة تُقنع الخارج أنها “البديل الأفضل لنفسها”.

 

    أذن ما العمل؟

1. استعادة الفكرة الوطنية الجامعة

لا خلاص دون مشروع فكري جديد يعيد تشكيل الهوية الوطنية على أسس مدنية، شاملة، ورافضة للطائفية والعرقية والمحاصصة. لا نحتاج استنساخ الشيوعية أو البعث، بل صياغة وعي جديد يُجيب عن سؤال: من نحن؟ وماذا نريد؟

ينبغي أن يُعاد تعريف مفهوم “الوطن” بوصفه عقدًا اجتماعيًا لا غنيمة فئوية. يجب أن تكون هناك سردية عراقية جديدة جامعة، تحمل وجع العراقيين من كل المكونات، وتنظر إلى المستقبل لا إلى خنادق الماضي.

2. بناء قيادة بديلة

القادة لا يُنتجون في الفراغ، بل في ساحات الفعل الجماعي. على النخب الوطنية المستقلة، وعلى الفئات الشبابية الواعيّة، أن تنتقل من دور المتفرج أو الناقد إلى دور المؤسّس. نحتاج إلى جبهة وطنية عابرة للهويات الفرعية، قادرة على بناء خطاب سياسي متماسك، والظهور كطرف جدير بالثقة محليًا ودوليًا.

3. تنظيم الفعل لا تفجيره

الثورات لا تنتصر بالصوت العالي فقط، بل بالتنظيم المحكم. المطلوب اليوم هو الانتقال من مرحلة الاحتجاج العفوي إلى بناء هياكل سياسية ومدنية قادرة على إدارة الشارع، حماية المكتسبات، والضغط بطرق مدروسة.

هذا يشمل:

تشكيل أطر تنظيمية محلية في الأحياء والجامعات.

إعداد قيادات ميدانية.

الاستفادة من الإعلام الرقمي لتوسيع التأثير.

4. التعامل الذكي مع الخارج

التغيير في العراق لا يمكن أن يتم دون التعامل الواقعي مع الفاعلين الدوليين. لكن المطلوب هو استراتيجية استقلال تدريجي، لا قطع عدمي. يجب مخاطبة الخارج بمنطق المصالح المشتركة، لا بعقلية الاتهام أو التبعية .

ينبغي أن يُقدَّم المشروع الوطني بوصفه طريقًا للاستقرار، وليس للفوضى، وأن يكون واضحًا أن الشعب العراقي لم يعد مستعدًا ليبقى حقل تجارب لقوى خارجية أو داخلية.

5. تحويل الوعي إلى حركة

هناك نخب عراقية مثقفة، وطنية، صاحبة وعي عميق، لكنها مشتتة. المطلوب هو إنشاء شبكة فكرية – تنظيمية تجمع هذه الطاقات في إطار عملي. لا يكفي أن نكتب ونحلل ونتألم؛ لا بد من تحويل هذه الرؤى إلى مسار تغييري منظم .

 

الخلل في العراق ليس في غياب المعاناة، بل في غياب المشروع. ليس في غياب الغضب، بل في غياب البوصلة. ليس في غياب الأفراد الشرفاء، بل في غياب التنسيق والإرادة الجمعية.

“ما العمل؟” لم يعد سؤالًا فكريًا فقط، بل بات تحديًا وجوديًا لشعب بأكمله. إما أن نبدأ التغيير من أنفسنا، بعقلانية وجرأة، أو ننتظر تغييرات مفروضة من الخارج، غالبًا ما تكون على حساب مستقبلنا وهويتنا.

العراق لا ينقصه الوعي، بل المسار. ولا ينقصه الأبطال، بل التنظيم. ولا تنقصه النوايا، بل الإرادة الجامعة.

التعليقات معطلة.