حرب لا عملية عسكرية
في تحول استراتيجي كبير ومفصلي، أعلنت إسرائيل أنها في “حالة حرب” مع إيران، لا مجرد “تنفيذ عملية عسكرية محدودة”. هذا الإعلان، الذي قد يبدو للبعض مجرّد تصعيد لفظي، هو في الحقيقة إقرار بتبدّل جوهري في قواعد الاشتباك، وطبيعة الصراع الإقليمي، وحدود ما يُسمى بـ”الردع”. إنه إعلان صريح بأن الهدف هذه المرة ليس تحجيم إيران، بل إقصاؤها تماماً من معادلة النفوذ في الشرق الأوسط.
العملية العسكرية: إطار محدود، أهداف محسوبة
في المفهوم العسكري الكلاسيكي، تُعرَّف العملية العسكرية بأنها تحرّك عسكري محدود في الزمن والهدف والمجال الجغرافي. وقد اعتادت إسرائيل تنفيذ هذا النوع من العمليات سواء في غزة أو سوريا أو حتى في العمق الإيراني من خلال الضربات النوعية أو الهجمات السيبرانية، وكلها بقيت ضمن هامش “التكتيك” دون أن تمسّ “الاستراتيجية الكبرى”.
لكن إعلان “الحرب” يخرج من هذا الإطار، وينقل المنطقة إلى مستوى جديد من التصعيد متعدد الجبهات، ومتعدد الطبقات.
الحرب كقرار استراتيجي: الأهداف تتجاوز النووي
ما تريده إسرائيل اليوم لا يقتصر على تعطيل أو تدمير منشآت نووية (يُعتقد أصلاً أن جزءاً منها تم تفكيكه أو تمويه موقعه خلال السنوات الأخيرة)، بل يتعداه إلى:
إسقاط البنية التحتية العسكرية الصاروخية لإيران
استهداف المنظومات التكنولوجية المرتبطة بالحرس الثوري
تحييد الأذرع الإقليمية التي تدور في فلك طهران: حزب الله، الفصائل في العراق، الحوثيين،
ضرب العمق السياسي والعقائدي لنظام “ولاية الفقيه” بما يعنيه من شرعية وهيبة وتأثير
الغاية من كل ذلك هي تحجيم إيران حتى إخراجها تماماً من دائرة التأثير في المنطقة، ليس فقط كدولة نووية محتملة، بل كمشروع إيديولوجي وعسكري عابر للحدود.
العراق: مركز النفوذ الإيراني وميدان الحسم
لا يمكن فهم قرار الحرب الإسرائيلية دون إدراك حقيقة مركز الثقل الإيراني خارج حدودها، والذي يتجسد في العراق. فمنذ العام 2003، تحوّل العراق إلى العمق الحيوي للنفوذ الإيراني، ليس فقط جغرافياً، بل مؤسساتياً وأمنياً واقتصادياً.
العراق يحتضن أقوى الأذرع المسلحة الإيرانية خارج طهران.
ويُعدّ الممر الاستراتيجي لنقل السلاح والمال والخبرات إلى سوريا ولبنان وغزة.
وفيه تُختبر أدوات الحرب النفسية والسياسية والتعبوية التابعة للحرس الثوري.
ولهذا، فإن أي حرب شاملة ضد إيران لن تجنب العراق، بل ستبدأ منه أو تدور فيه. فبغداد ليست فقط عاصمة عربية، بل باتت في نظر إسرائيل وبعض القوى الدولية العاصمة البديلة لطهران في تمددها الناعم والخشن في آن واحد.
الضربات التي بدأت تُسجل في العراق منذ أشهر، بصمت أو بغموض، ما هي إلا إرهاصات لتصفير النفوذ الإيراني فيه تمهيداً لتقليم أظافر طهران في كامل الإقليم. ويبدو أن منطقة القرار الدولي ترى أن إقصاء إيران عن بغداد، هو بداية إقصائها عن بيروت ودمشق وصنعاء.
من تكتيك الردع إلى استراتيجية التصفير
لفترة طويلة، تعاملت إسرائيل مع إيران بمنطق “الردع”، متجنبة الانجرار إلى مواجهة شاملة رغم آلاف الضربات في سوريا وعمليات الاغتيال الدقيقة داخل طهران. اليوم تغيّر كل شيء. اللعبة تحوّلت من إدارة التهديد إلى تصفيته من الجذور. إسرائيل تدرك أن الخطر لم يعد “آتيًا”، بل بات متجذرًا في محيطها، ولهذا اختارت الحرب لا العملية.
إسرائيل تقلب المعادلة: إيران هي الخطر الوجودي
ما جرى بعد 7 أكتوبر، وما تبعه من تصاعد دور حزب الله في الشمال، والتماهي العلني بين الجبهات، دفع إسرائيل إلى قناعة حاسمة: الخطر الحقيقي لم يعد من حدود غزة أو حتى جنوب لبنان، بل من الرأس في طهران.
وهنا، يتجلى مفهوم “الحرب” بكل ما يحمله من معنى: استهداف الرأس قبل الذراع. ولأجل ذلك، لا بد من دخول مرحلة الصراع المفتوح، حتى لو استمر شهورًا أو سنوات.
إيران بين الرد والخيار الصعب
رد إيران حتى اللحظة ما زال محسوبًا، لكنها تعرف أن هذه الحرب ليست كسابقاتها. فهي لا تُخاض على أرض ثالثة، بل بدأت تقترب من عمق أراضيها، سياديًا واقتصاديًا وحتى رمزيًا. ولذلك، فإيران أمام خيارين:
رد شامل يفتح كل الجبهات، لكنه قد يؤدي إلى خسارة نظامها بالكامل.
احتواء مرحلي مع محاولة تدويل الأزمة، وهو ما قد يفقدها شرعية مشروعها المقاوم إقليميًا.
معركة إنهاء الدور، لا تعديل السلوك
الحرب التي أعلنتها إسرائيل ضد إيران، ليست حرب أوراق تفاوضية ولا محاولة لتغيير السلوك الإيراني فقط، بل هي محاولة جذرية لإنهاء الدور الإيراني في الشرق الأوسط، وطيّ صفحة أربعة عقود من تمدد نفوذ طهران عبر الحروب بالوكالة.
إنها الحرب التي لا يمكن أن تنتهي إلا بنهاية أحد الطرفين إما كنظام سياسي أو كمشروع إقليمي. وفي هذا السياق، يبدو أن إسرائيل قررت خوض حرب الوجود لا حرب الرسائل، وأن العراق سيكون نقطة الحسم ، لا مجرد ساحة جانبية .