نتنياهو والفلسطينيون وثمن الإهمال
رسم بريشة مارك هاريس (رويترز)
في أحد الأيام المشمسة من أبريل (نيسان) 1956، توجه موشيه ديان، رئيس أركان جيش الدفاع الإسرائيلي ذو العين الواحدة، جنوباً إلى ناحال عوز، وهو كيبوتس كان قد أنشئ حديثاً قرب حدود قطاع غزة. جاء ديان لحضور جنازة روي روتبرغ وهو شاب كان يبلغ من العمر 21 سنة، قتل في صباح اليوم السابق على يد فلسطينيين بينما كان يقوم بدورية في الحقول ممتطياً جواده. وكان القتلة قد سحبوا جثة روتبرغ إلى الجانب الآخر من الحدود، حيث عثر عليها مشوهة ومنزوعة العينين، وتسبب ذلك في حالة من الصدمة والأسى على الصعيد الوطني.
لو كان ديان يتحدث في إسرائيل اليوم، لركز في تأبينه على الإدانة الشديدة للوحشية الفظيعة التي ارتكبها قتلة روتبرغ، لكن وفق ما قيل عن خطابه في الخمسينيات من القرن الماضي، كان متعاطفاً بشكل ملحوظ مع الجناة. آنذاك، قال ديان: “دعونا لا نلقي اللوم على القتلة. فعلى مدى السنوات الثماني الماضية، أقاموا في مخيمات للاجئين في غزة، وشاهدونا بأم العين نحول أراضيهم وقراهم، حيث كانوا يعيشون مع آبائهم وأجدادهم في السابق، إلى وطن لنا”. كان ديان يلمح إلى “النكبة”، التي هجرت العرب الفلسطينيين بغالبيتهم قسراً بعد انتصار إسرائيل في حرب الاستقلال عام 1948. ونقل عدد كبير منهم بالقوة إلى غزة، بمن في ذلك سكان المجتمعات التي تحولت في نهاية المطاف إلى بلدات وقرى يهودية على طول الحدود.
لم يكن ديان مؤيداً للقضية الفلسطينية. فهو في عام 1950، بعد انتهاء الأعمال العدائية، نظم عملية تهجير المجتمع الفلسطيني المتبقي في بلدة المجدل الحدودية، المعروفة اليوم بمدينة عسقلان الإسرائيلية. لكن على رغم ذلك، تمكن ديان من فهم فكرة رفض كثير من اليهود الإسرائيليين تقبلها، وهي أن الفلسطينيين لن ينسوا النكبة على الإطلاق ولن يتخلوا عن حلم العودة لديارهم. وقال ديان في خطاب التأبين “دعونا لا نتجاهل الكراهية التي تتأجج في صدور مئات الآلاف من العرب الذين يعيشون حولنا. هذه هي الحياة التي اخترناها: أن نكون مستعدين ومسلحين، أقوياء وعاقدي العزم، خشية أن يسقط السيف من قبضتنا وتحل نهايتنا”.
وفي السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تحقق التحذير القديم لديان بأكثر طريقة دموية ممكنة. ففي أعقاب خطة دبرها يحيى السنوار، وهو قائد في حركة “حماس” ولد في أسرة أجبرت على الخروج من المجدل، شن المسلحون الفلسطينيون غزواً على إسرائيل في نحو 30 نقطة على طول حدود غزة. معتمدين على عنصر المفاجأة، اجتاحوا دفاعات إسرائيل الضعيفة وشرعوا في مهاجمة مهرجان موسيقي، وبلدات صغيرة، وأكثر من 20 كيبوتساً. فقتلوا نحو 1200 مدني وجندي واختطفوا أكثر من 200 رهينة، واغتصبوا وسرقوا وأحرقوا ونهبوا. لقد عاد أحفاد سكان مخيم اللاجئين في زمن ديان للانتقام، يغذيهم نفس الشعور بالكراهية والبغض الذي وصفه، لكنهم الآن أفضل تسلحاً وتدريباً وتنظيماً.
كان السابع من أكتوبر أسوأ كارثة حلت في تاريخ إسرائيل، إذ شكل منعطفاً على الصعيد الوطني والشخصي لكل من يعيش في البلد أو يرتبط به. وبعد فشل جيش الدفاع الإسرائيلي في وقف هجوم “حماس”، رد بقوة ساحقة، فقتل الآلاف من الفلسطينيين ودمر أحياء بأكملها في غزة. ولكن حتى في وقت يسقط فيه الطيارون القنابل وتطهر قوات الكوماندوز أنفاق “حماس”، فإن الحكومة الإسرائيلية لم تأخذ في الاعتبار العداء الذي أدى إلى شن هذا الهجوم، أو السياسات التي قد تحول دون وقوع هجوم آخر. وفي الواقع، يأتي صمتها بناءً على طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي رفض وضع رؤية أو ترتيب لما بعد الحرب. لقد وعد نتنياهو بـ”تدمير حماس”، ولكن باستثناء القوة العسكرية، ليست لديه استراتيجية للقضاء على هذه الحركة ولا خطة واضحة لتشكيل حكومة أمر واقع تحل محل “حماس” في غزة بعد انتهاء الصراع.
في الحقيقة، إن فشله في وضع استراتيجية لم يكن محض صدفة، وهو ليس تصرفاً قام به من منطلق ضرورة سياسية تهدف إلى الحفاظ على تماسك ائتلافه اليميني. لكي تعيش إسرائيل في سلام، يتعين عليها أن تتوصل في النهاية إلى اتفاق مع الفلسطينيين، مما عارضه نتنياهو طوال حياته المهنية. لقد كرس فترة ولايته رئيساً للوزراء، وهي الأطول في تاريخ إسرائيل، لتقويض الحركة الوطنية الفلسطينية وتهميشها. ووعد شعبه بأنهم قادرون على تحقيق الازدهار من دون السلام. واستطراداً، تمكن من إقناع البلاد بأنها تستطيع مواصلة احتلال الأراضي الفلسطينية إلى الأبد من دون أي كلفة محلية أو دولية تذكر. وحتى في الوقت الحالي، في أعقاب السابع من أكتوبر، لم يغير هذه السياسة. والشيء الوحيد الذي قال نتنياهو إن إسرائيل ستفعله بعد الحرب هو الحفاظ على “محيط أمني” حول غزة، وهو تعبير ملطف ومبطن لاحتلال طويل الأمد، بما في ذلك إقامة منطقة عازلة على طول الحدود تتعدى على جزء كبير من الأراضي الفلسطينية المحدودة.
ولكن لم يعد من الممكن لإسرائيل أن تظل مغمضة العينين وضيقة الأفق إلى هذا الحد. لقد أثبتت هجمات السابع من أكتوبر أن وعد نتنياهو كان فارغاً. فعلى رغم توقف عملية السلام وتراجع الاهتمام الدولي، تمكن الفلسطينيون من الحفاظ على شعلة قضيتهم. وفي مشاهد التقطتها “حماس” في السابع من أكتوبر بواسطة كاميرا مثبتة على جسد أحد المهاجمين، يمكن سماع الغزاة يصرخون “هذه أرضنا!” أثناء عبورهم الحدود لمهاجمة الكيبوتس. لقد صور السنوار العملية علناً على أنها عمل من أعمال المقاومة، متأثراً ومدفوعاً شخصياً، إلى حد ما، بالنكبة. علاوة على ذلك، أمضى زعيم “حماس” 22 عاماً في السجون الإسرائيلية، ويقال إنه كان يخبر رفقاءه في الزنزانة باستمرار أنه يجب إلحاق الهزيمة بإسرائيل حتى تتمكن عائلته من العودة لقريتها.
لكي تعيش إسرائيل في سلام، عليها أن تتوصل في النهاية إلى تفاهم مع الفلسطينيين
مرة أخرى، جعلت صدمة السابع من أكتوبر الإسرائيليين يدركون أن الصراع مع الفلسطينيين يشكل أهمية مركزية لهويتهم الوطنية وتهديداً لسلامتهم، لذا لا يمكن التغاضي عنه أو تجاوزه، وأن الاستمرار بالاحتلال، وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وفرض الحصار على غزة، ورفض تقديم أي تسوية تتعلق بالأراضي (أو حتى الاعتراف بالحقوق الفلسطينية) لن يجلب للبلاد الأمن الدائم. وفي المقابل، سيكون من الصعب للغاية التعافي من هذه الحرب وتغيير المسار، ولكن هذا لا يعود فحسب إلى عدم رغبة نتنياهو في التوصل إلى حل للصراع الفلسطيني. ففي الحقيقة، اندلعت هذه الحرب ربما في فترة تشهد فيها إسرائيل مستويات غير مسبوقة من الانقسامات الداخلية. ففي السنوات التي سبقت الهجوم، كانت البلاد منقسمة بسبب جهود نتنياهو الرامية إلى تقويض مؤسساتها الديمقراطية وتحويلها إلى دولة استبدادية قومية ثيوقراطية. وأثارت مشاريع القوانين والإصلاحات التي قدمها احتجاجات وانشقاقات واسعة النطاق هددت بتمزيق البلاد قبل الحرب وستعود لتحدق بها بمجرد انتهاء الصراع. وفي الواقع، سيصبح الخلاف حول بقاء نتنياهو السياسي أكثر حدة مما كان عليه قبل السابع من أكتوبر، مما سيجعل من الصعب على البلاد أن تسعى إلى تحقيق السلام.
ولكن مهما حدث لرئيس الوزراء، فمن غير المرجح أن تجري إسرائيل حواراً جدياً حول التسوية مع الفلسطينيين، إذ إن الرأي العام الإسرائيلي تحول بصورة عامة نحو اليمين [صار أكثر ميلاً نحو اليمين]، والولايات المتحدة منشغلة على نحو متزايد بانتخابات رئاسية حاسمة. ولن يكون ثمة جهود تذكر أو حوافز لإعادة تفعيل عملية سلام مجدية وملموسة في المستقبل القريب.