الياس حرفوشصحافي وكاتب سياسي لبناني، عمل مسؤولاً في القسم السياسي في مجلتي «الحوادث» و«المجلة»، وكان له مقال أسبوعي فيهما. كما عمل في صحيفة «الحياة» التي شارك في إدارة تحريرها، وكان كاتباً ومشرفاً على صفحات «الرأي» فيها. أجرى العديد من المقابلات مع شخصيات عربية ودولية، وشارك في حوارات ومقابلات تلفزيونية معلقاً على أحداث المنطقة.

تتصرَّف إسرائيل في حربها على قطاع غزة وكأنَّها غيرُ معنيةٍ بما سيعقب هذه الحرب. كأنَّها حربٌ أبدية. ليس مهماً بالنسبة إليها لا كيف ستكون علاقاتُها مع الفلسطينيين بعد هذه الحرب، ولا مع جيرانِها العرب، ولا حتى مع العالم الخارجي.

لا يقيم القادةُ الحاليون في إسرائيل أيَّ وزن لما يقولونه ولا ما يرتكبونه. لا العبارات العنصرية بحقّ الفلسطينيين تثير خجلهم، ولا التهديد بإلقاء القنابل النووية عليهم، ولا إبادة عائلاتٍ بكامل أفرادها تحت سقوف منازلها تحرّك أيَّ ضمير لديهم. لا أحد هناك يسأل: كيف سنعيش في المستقبل إلى جانب من سيبقى على قيد الحياة من هؤلاء؟ ماذا سنقول لأطفالهم عمَّا ارتكبناه بحق آبائهم وأجدادهم، من مجازرَ لا تتعب من التكرار؟

يشمل هذا الاستهتار الإسرائيلي بفظاعة ما يرتكبون، استهتارَهم بالمواقف العربية والإسلامية، حكوماتٍ وشعوباً، التي تدين أعمال القتل الجارية في غزة والانتهاكات اليومية لكل القوانين الإنسانية وقواعد الحروب. حتى الذين ينتقدون «حماس» ولا يبررون أو يدافعون عمَّا ارتكبته في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، يعجزون عن الدفاع عن أعمال القتل والعقاب الجماعي الجاري بحق شيوخ ونساء وأطفال غزة.

يزيد من فظاعة استهتار قادة إسرائيل بما يرتكبه جيشهم في غزة تجاهل كامل للمسؤولية عن سبب وصول قطاع غزة إلى ما هو عليه، بأحواله التعيسة وبمخيمات البؤس المنتشرة في أرجائه. لا يهتزّ ضمير في إسرائيل ليسأل: من أين جاء هؤلاء اللاجئون؟ من دفعهم إلى حياة الذلّ التي يعانون منها؟ من دمَّر بيوتهم وهجّرهم من القرى التي كانت لهم في فلسطين؟ كل محاولة لفتح كتب التاريخ تُتّهم بمعاداة السامية، على لسان نتنياهو وشركائه. حتى الأمين العام للأمم المتحدة لم يسلم من قسوة ألسنتهم عندما قال: إنَّ عملية 7 أكتوبر الماضي لم تأت من فراغ.

تبدو إسرائيل غير معنية لا بأعداد المدنيين القتلى بالآلاف، ولا بالدمار الواسع الذي لا قيامة لحياة من بعده، ولا بالأهداف الحقيقية لهذه المجازر، سوى فرض منطق القوة، ولا شيء سوى القوة، على مدنيين ضعفاء، عاجزين، يتوسلون نقطة ماء أو كسرة خبز، أو أطفال تعجز الكلمات عن وصف أجسادهم النحيلة المتهالكة في مستشفيات الولادة، محرومين من حد أدنى من العناية يبقيهم على قيد الحياة.

لا تستخف إسرائيل بمواقف جيرانها فقط. تجاهل واستخفاف بانتقادات المنظمات الإنسانية الدولية، مثل «الأونروا» و«اليونيسيف» ومنظمة الصحة العالمية ومفوضية حقوق الإنسان، وسواها من المنظمات التي اعتبرت حرمان أبناء قطاع غزة من الماء والدواء والوقود أعمالاً منافية للقواعد الإنسانية التي ترعى حقوق المدنيين في زمن الحروب.

حتى أصدقاء إسرائيل على الساحة الدولية باتوا يضيقون ذرعاً بارتكاباتها وترتفع الأصوات من شخصيات مؤثرة ويتزايد عدد الحكومات الغربية التي تنتقد بعبارات صريحة ما يفعله جيشها في غزة: أوقفوا قتل الأطفال… أعداد القتلى من المدنيين تتزايد… احترموا قواعد الحرب والقانون الإنساني الدولي… غزة تحولت مقبرةً للأطفال… مواقف على لسان رؤساء حكومات غربية من الذين لم يترددوا في إدانة ما ارتكبته «حماس» بحق مدنيين إسرائيليين في 7 أكتوبر الماضي، لكنهم أصبحوا عاجزين عن الاستمرار في الدفاع عن الحملة الإسرائيلية أمام هول صور المجازر التي تقتحم الشاشات كل مساء. رئيس حكومة إسبانيا طالب بوقف «القتل الأعمى» ومثله فعل رئيس حكومة كندا. ورئيس فرنسا عاد يطالب بوقف إطلاق النار وحماية المدنيين، بعد انجرافه المبكر إلى المطالبة بتحالف دولي ضد «حماس». ووصل الأمر أخيراً بإدارة الرئيس بايدن إلى إعلان عدم موافقتها على اقتحام القوات الإسرائيلية مجمع الشفاء الطبي في غزة، وبوزير خارجيته بلينكن إلى الاعتراف بأن أعداد القتلى المدنيين في غزة بلغت أرقاماً غير مقبولة.

نجحت إسرائيل في قلب التعاطف الذي وجدته في الأيام الأولى من حربها على غزة إلى حملة ضدها يشهدها عدد لا يستهان به من عواصم العالم ومسيرات في شوارع المدن الكبرى تندد بما يرتكبه جيشها في تلك الحرب. ولا يجد قادة إسرائيل ما يردون به سوى بشعار أن جيشهم هو الأكثر أخلاقاً بين كل جيوش العالم، وبأن «حماس» هي المسؤولة عن قتل المدنيين في غزة بعدما حولتهم «رهائن»، وبأن إسرائيل مضطرة إلى الدفاع عن بقائها في وجه أعداء ينوون اقتلاعها.

ومشكلة الرواية الإسرائيلية أنها صارت حافلة بالخداع ومفضوحة أمام من يريد أن يرى ويسمع. لا الجيش الإسرائيلي قادر على تبرير أفعاله في غزة بأنها دفاع عن النفس؛ لأن هذا الدفاع لا يتم باللجوء إلى حرب لإبادة المدنيين وتهجيرهم من بيوتهم. ولا حجة تحويل «حماس» سكان غزة «رهائن» باتت قابلة للتصديق، بعدما تبين أن أكثر المواقع التي تقصفها إسرائيل هي مواقع مدنية لا وجود فيها لمسلحي «حماس».

أما حجة «الأعداء» الذين يريدون اقتلاع إسرائيل، فقد أثبتت دعوات التهجير الأخيرة لأبناء غزة أن المعروض هو اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم وليس العكس. لقد أثبت العرب بطلان المزاعم الإسرائيلية منذ اتخذوا المبادرة تلو الأخرى تجاه السلام والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود في المنطقة، وهي المبادرات التي بذلت إسرائيل، خصوصاً برعاية نتنياهو، كل جهد لإفشالها. ومع أن هناك أصواتاً متطرفة بين الفلسطينيين وفي المنطقة تغذيها اتجاهات راديكالية، إلا أن هذه الأصوات تخفت عندما تساهم إسرائيل في التجاوب مع دعوات السلام، وهو ما لا تفعله، بل تفعل عكسه، من خلال الاعتداءات المستمرة على الفلسطينيين، والتوسع في أعمال الاستيطان، حتى باتت المستوطنات تغطي 40 في المائة من مساحة الضفة الغربية.

سؤال «اليوم التالي» هو ما يحتاج إلى أن يطرحه مَن بقي من متعقلين بين قادة إسرائيل: ماذا بعد هذا القتل والدمار؟ ماذا بعد هذه الفظاعات المحفوظة في الذاكرة والموثّقة على الشاشات؟ كيف سيكون مستقبلنا في المنطقة إلى جانب أهالي هؤلاء الضحايا؟