مقالات

إلى أين يتجه التسريح القسري للكفاءات الوطنية بالقطاع الخاص؟

 
 
د. رجب بن علي العويسي
 
 
يبدو أن مشكلة تشغيل القوى العاملة الوطنية تتجه إلى مستقبل غامض، فمع كل الجهود الحكومية والمؤسسية التي تبذل في التعامل مع ملف الباحثين عن عمل والحد من إرهاق هذا الملف بتبعات أخرى من غير العمانيين المستجدين الداخلين في القطاع الخاص، فقد أضافت مسألة التسريح القسري للقوى العاملة الوطنية في مؤسسات القطاع الخاص والشركات تركة أخرى إلى هذا الملف ليصبح مثقلا بالتراكمات الكثيرة والالتزامات المتعددة، وهو ما يعني أن التعامل مع الملف لم يعد تركيزه على مسار واحد وهو معالجة مشكلة المخرجات التعليمية الجامعية وما قبل الجامعية والدبلوم العام وغيرهم من المتسربين دراسيا، بل اتجهت لفئة المسرحين من أعمالهم وهم الكفاءات الوطنية التي خدمت في القطاع لسنوات طويلة، يصل بعضها لأكثر من عشر سنوات، وما يحيط بهذا المسار الآخر من إشكالية تتعلق بالافتقار إلى حلول توافقية وتسويات مالية وآليات بديلة تستوعب هذه الكفاءات في المؤسسات والشركات الأخرى، لذلك فهي تسير في حلقة مفرغة، مع أن الحكومة بدورها تعمل جاهدة على إعادة التوازن في هذا الملف، والتسريع في إيجاد المعالجات التي تحفظ لهذه الفئات حقوقها في العمل ومقابلة عطائها الدراسي بإنجازات قادمة تظهر على إنتاجيتها وانتمائها وولائها للوطن، وفي ظل عدم وضوح التوجهات الأخرى التي تمارسها أو تتخذها الجهات الأخرى المعنية بالموضوع، كوزارة القوى العاملة، ممثلة في دائرة تسوية المنازعات العمانية والهيئة العامة لسجل القوى العاملة والاتحاد العام لعمال السلطنة، ولجوء هذه الفئات إلى المؤسسات القضائية والتشريعية (الادعاء العام والمحاكم)، للمطالبة بحقوقهم الوظيفية ومعالجة مشكلة فصلهم من العمل بدون أي سبب يتعلق بإنتاجيتهم أو التزامهم أو انضباطهم المهني، بغية الوصول إلى تسويات تتعلق برجوعهم للعمل أو باستيعابهم من قبل مؤسسات أخرى بنفس المخصصات المالية والوظيفية، مع أن التفاؤلية في التعاطي السريع مع نواتج هذا التسريح يكتنفها الغموض والصعوبة في الوقت نفسه، نظرا لتشابه المشكلة المتعلقة بالظروف المالية التي تعانيها المؤسسة أو الشركة، وعدم وجود السيولة المالية المناسبة لسداد رواتب الموظفين العمانيين فيها، وبالتالي تبقى عمليات التفاوض الحاصلة أو التحسينات الممكن اضافتها في التعاطي مع الموضوع، أو تأخير تسريح بعض الفئات أو التدرج أو إعادة تصحيح أوضاع المسرحين، مسكنات وقتية – إن تحققت – غير قادرة على التعاطي مع أبعاد المشكلة التي سيؤدي تطورها إلى أزمة تقضي على كل المؤشرات الإيجابية في ملف الباحثين عن عمل.
وبالتالي ما يضيفه هذا السلوك من تراكمات جديدة على هذا الملف، ويضعه في قائمة الملفات العجوزة ويعطي صورة أخرى غير مرضية لدى المواطن المتابع والمراقب لتطور هذه الملف بل والمنتظر للوظيفة منذ سنوات عدة، بشأن ما تقدمه الحكومة والمؤسسات من جهود، وثقته في نواتج ما تمارسه من ضغط على هذه المؤسسات والشركات في تطبيق الالتزامات والتعهدات التي وعدت بها في حلحلة هذه الملف عن طريق استيعاب الكفاءة الوطنية من جهة، وتبني سياسة عدم التسريح للقوى العاملة الوطنية والرجوع إلى الحكومة في حالة أي توجهات تتخذها في هذا الشأن، وبالتالي وضع المسألة امام نقاشات مستفيضة وحوارات متعددة بين الحكومة وممثلي القطاع الخاص، لضمان إيجاد معالجات وطنية مستدامة تراعي الظروف المرتبطة بهذه الفئات وطبيعة الالتزامات التي تعيشها وانعكاساتها على الاستقرار الأسري والبناء الاجتماعي.
لقد أشارت إحصائيات المركز الوطني إلى أن المشتغلين في القطاع الخاص والعائلي من العمانيين بنهاية عام 2017 بلغ 238.688 عمانيا من الجنسين، مقابل 1.795.689 للأيدي العاملة الوافدة التي تحوز على ما يقارب من 90 % من حضورها في هذا القطاع، كما تشير أيضا إلى أن فئة الأجر الأساسي من العمانيين المشتغلين في القطاع بلغت في الفئة (325-3999)، نسبة 46.510، للذكور و30.072 للإناث، والفئة (400-499) ما نسبته 44.573 للذكور و(9.184) للإناث، وهاتان الفئتان في الأجور تمثلان الأعلى في القوى العاملة الوطنية في القطاع الخاص، كما تشير إلى أن اكثر المجموعات المهنية التي يتركز فيها العمانيون في هذا القطاع في المهن الكتابية التي يقترب فيها نصيب الجنسين لتصل (55.435)، تليها المهن الهندسية الأساسية والمساعدة (54.188) ثم مهن الخدمات (44.107)، ومن حيث مستوى المهارة تشير إلى أن العمانيين يتركزون في الفئة العامل المهني (75.915)، ثم العامل محدود المهارات (64.410)، تليها العامل الماهر (44.521)، في حين شكل الاختصاصيون العمانيون (34.250) مقابل الاختصاصيين الوافدين (118.186). في ظل الزيادة في أعداد الباحثين عن عمل، للأشهر فبراير ومارس ومايو ويونيو لعام 2018: أن معدل الباحثين عن عمل للإناث في شهر مارس بلغ (8.5)، في حين بلغ المعدل للفئة نفسها في شهر يونيو من العام نفسه (9.4) أي بزيادة بلغت (1.1). وبلغ معدل الباحثين عن عمل في الفئة العمرية (15-24) لشهر مارس (6.2) في حين بلغ معدل الفئة نفسها في شهر يونيو (6.8) بزيادة بلغت (0.7) وبلغ معدل الباحثين عن عمل للفئة العمرية (أقل من 30 سنة) في شهر مارس للجنسين (10.2) في حين بلغ معدل الفئتين نفسهما في شهر يونيو (11.8) بزيادة بلغت (1.6). وشكل معدل حملة الدبلوم الجامعي فأعلى للإناث في شهر مارس (31.8)، في حين بلغ معدل الإناث من حملة المؤهل نفسه في شهر يونيو (37.5) بزيادة في المعدل بلغت (5.7)، مع ملاحظة أنه لم يشر صراحة إلى أعداد المسرحين في القطاع الخاص من العمانيين واكتفى بالإشارة إلى تاركي الخدمة من العمانيين في القطاع الخاص، بحسب متغير السبب، حيث أظهرت أن عددهم (999) لبلوغ سن التقاعد، و(517) للتقاعد المبكر الاختياري، و(396) للوفاة، في حين لم تحصل مسألة التقاعد المبكر الإجباري على أي رقم، وفي لقاء مع جريدة الشبيبة لعام 2016، أوضح رئيس اتحاد عمال السلطنة إلى أن عدد المسرحين العمانيين في عام 2016 بلغ (4200) عماني، وهو عدد يشكل رقما صعبا، يجب أن تتعامل معه الإحصائيات الوطنية، لما يمكن أن يضيفه من ابعاد أخرى في قراءة ملف الباحثين عن عمل، ولتبصير المواطن بما يطرحه من تساؤلات حول استمرار بقاء أعداد الباحثين المستجدين عن عمل، بالرغم من الأوامر السامية بشأن توظيف 25 ألفا من العمانيين الباحثين عن عمل، والجهود الحكومية المبذولة في التعامل مع هذا الملف، ليضيف إليه تبعات هذا التسريح، الحاضر في القضية والغائب عن أنظار الباحثين المستجدين ممن ينتظرون الوظيفة.
عليه تطرح هذه الإشكاليات الناتجة عن زيادة التسريح مع استمرارية الزيادة في ملف الباحثين عن عمل المستجدين، الحاجة إلى قراءة جذرية تأخذ في الحسبان سلطة القرار الحكومي الملزم للمؤسسات الخاصة والشركات، بعدم اتخاذ أي إجراء في التسريح إلا بأمر الحكومة، وفرض العقوبات الجزائية على المؤسسات في حالة اتخاذ قرار فردي بهذا الشأن، بالإضافة إلى تسريح الأيدي العاملة الوافدة في هذه المؤسسات بالشكل الذي يضمن وجود البديل العماني القادر على استمرارية التعامل مع متطلبات الإنتاج وآليات العمل، وتفعيل دور المؤسسات الرقابية والتنظيمية والتشريعية والقضائية في التعامل مع هذه الحالات الناتجة عن التسريح، وإيجاد التشريعات الوطنية القادرة على ضبط هذا الملف بطريقة تضمن عدم المساس بحياة المواطن وتعريضه للإساءة المهنية، أو التساهل في حقوقه الوظيفية التي أقرها القانون، ونعتقد بأن المسألة باتت بحاجة إلى مزيد من الحوار الوطني بشأنها والتكامل المؤسسي، وضمان دور أكبر للقطاع الخاص في مساندة جهود الحكومة في هذا الشأن وتفعيل كل خطوط التأثير الضبطية والرقابية في التعاطي مع هذا الموضوع، مع أهمية بناء ضمير هذه المؤسسات ذاتيا لتتوافق أعداد العاملين العمانيين الفعليين بها مع الاحصائيات المفصح عنها لوزارة القوى العاملة، مع تأكيدنا على أن طرح وجود صندوق استثماري وطني في التعاطي مع نتائج هذا التسريح، لا ينبغي أن يكون مبررا للقطاع الخاص لاستمرارية عملية التسريح، وهو ما يستدعي تبني أساليب مبتكرة وآليات عمل مهنية في رصد هذا الواقع والتعامل مع الإحصائيات، تضمن الإفصاح الفعلي عن نتائج هذه الممارسات وضررها على الاقتصاد الوطني والسلوك الاجتماعي وقضايا الأمن الاجتماعي وغيرها.
وبالتالي يفرض هذا الواقع على الحكومة جهودا أخرى في تأطير هذا القطاع وإعادة رسم ملامحه من جديد وهندسة معالمه في ظل ما يقدمه من خدمة فعلية للدولة ووضع التشريعات التي تبرز قوة الدولة وانتصار إرادة المواطن في مواجهة حالة الإخفاقات الناتجة عن تدني مستوى تجاوب هذه القطاع من الأولويات الوطنية والاحتياجات الضرورية للمواطن، ونقله من كونه قطاعا استهلاكيا بالدرجة الأولى، لا يمتلك قوة التأثير والاحتواء، ولا يستفيد من الخبرة الوطنية التي باتت واقعا، يجب التعاطي معها في ظل ما أثبتته الكفاءة العمانية من قدرتها على صناعة التحول وتحقيق الإنتاجية، هذا الأمر من شأنه إعطاء الحزم التطويرية التي اتجهت لها الحكومة في السنوات الأخيرة وأثمرت عن فرص أكبر لبقاء العامل العماني في القطاع الخاص لفترة أطول سواء في الاجازات الأسبوعية والسنوية وبعض الحقوق، كونها محفزات عززت من قدرة هذه القطاع على الوصول إلى توقعات الحكومة ورفع سقف استيعابه واستقطابه للكفاءة العمانية، وحتى لا يشكل هذا الأسلوب انتكاسة أخرى تضع نظرة المواطن للقطاع الخاص أمام علامات استفهام وحالة استهجان له، وانتزاع للثقة الوطنية منه.
ويبقى على المركز الوطني للتشغيل الذي أقره مجلس الوزراء الموقر في ديسمبر 2018، وباركه المقام السامي لجلالة السلطان المعظم – حفظه الله ورعاه-، أمام مسؤولية امتلاك آليات واضحة وسيناريوهات بديلة في التعامل مع هذه الإشكاليات والتراكمات الحاصلة في منظومة العمل والتشغيل، وما يضيفه ذلك من عبء أكثر على كل الجهود والآليات والخطط والتوجهات، بشكل يضمن قدرته على إعادة هندسة هذا الملف، وصلاحياته في اتخاذ قرار وطني حاسم يضع حدا لسلوك التهور والمماطلة والتملص الذي تنتهجه بعض مؤسسات القطاع الخاص في التعاطي مع هذا الملف ومتعلقاته؟

admin