إمرسون: المفكر الذي اخترع “حلم أميركا” وأعلن استقلال عقلها

1

أسس مجلة باسمه وجعل النساء جزءاً أساسياً من أول حركة شعرية في الزمن الحديث

إبراهيم العريس  باحث وكاتب  

رالف والدو إمرسون (1803 – 1882) (موقع الشعراء الأميركيين)

“إن أكبر فضل نعزوه إلى موسى وأفلاطون وملتون هو أنهم أهملوا الكتب والتقاليد كل الإهمال، ونطقوا بما دار في خلدهم لا بما دار في خلد الناس الذين سبقوهم، لكننا نحن اليوم بالمقارنة رعاع، لا يقيم الإنسان منا لإنسانيته وزناً، ولم يتعلم أن يلزم داره ليتواصل مع محيطه الداخلي، بل يتوجه شطر الخارج، يطلب كأس ماء من أوعية الآخرين، مع أننا يجب أن نسير في الفكر وحدنا”. الرجل الذي قال هذه الكلمات خلال حفل خطابة شارك فيه عام 1937 يعرف في تاريخ الثقافة الأميركية بأنه “الرجل الذي أعلن استقلال العقل الأميركي” لكنه يعرف أيضاً في مجال أكثر انتشاراً بأنه “مخترع الحلم الأميركي“. اسمه رالف والدو إمرسون، ولن يفوتك أن تجد اسمه وذكره أنى توجهت وتجولت في الجغرافيا والتاريخ الأميركيين بل وفي ما هو أبعد من ذلك. فلو كان الحديث عن الشاعر والت ويتمان وتعلقه “المرضي” بأميركا، ستجد إمرسون في ثنايا الحديث، ولو جيء على ذكر ثورو فسيكون إمرسون حاضراً. وحتى حين يصل المرء إلى إنجلترا وتطالعه أسماء مثل كولردج وكارلايل، لن يفوته أن يلاحظ، هنا أيضاً، حضور إمرسون، ذلك أن هذا الأخير كان من أصحاب الأسماء المرموقة حقاً في الأدب الأميركي، كما في لعبة التبادل الفكري بين أميركا وبريطانيا، طوال القرن التاسع عشر.

الأميركي الأول

ففي نهاية الأمر كان إمرسون بحسب كثر من المؤرخين “أول فيلسوف أميركي الروح في تاريخ البشرية”. ولم يكن هذا اللقب مغالاة ولا صدفة، إذ حسبنا أن نقرأ الخطاب الذي ألقاه إمرسون أمام خريجي جامعة هارفرد الذي اقتبسنا منه الفقرات التي افتتحنا بها هذا الكلام، وهو في الأصل محاضرة عنوانها “العالم الأميركي”، حتى ندرك ذلك، إذ إن هذا الخطاب عد دائماً “إعلان استقلال العقل الأميركي”، في استكمال لذلك الإعلان الاستقلالي الأميركي الذي كان سبقه بستين عاماً. صحيح أن الخطاب وصف على الفور بأنه “حدث لا مثيل له سابقاً في سجلاتنا الأدبية”، ولكن عضواً آخر من الجمهور، القس جون بيرس، قال إنه “كلام غير متماسك على ما يبدو وغير مفهوم”. وكانت النتيجة أن الجامعة وعلى رغم الحديث العام عن “تاريخية الخطاب” وكونه الإعلان الثاني المكمل لإعلان الاستقلال الأميركي، لم تعمل على دعوته مرة أخرى للتحدث في هارفرد لمدة ثلاثين عاماً أخرى.

60-Best-Henry-David-Thoreau-Quotes.jpg

هنري ديفيد ثورو (1817 – 1862) (موقع الشعراء الأميركيين)

استقلال العقل

والحال أن استقلال العقل، وتجليه، كانا أبرز ما نادى به إمرسون طوال حياته، حيث نجده يقول في ذلك الخطاب الذي كان كل مثقف أميركي في ذلك الزمن يحفظه عن ظهر قلب: “إن يوم اعتمادنا على غيرنا وتتلمذنا الطويل على علم بلاد أخرى يقترب من نهايته. إن الملايين من حولنا والتي تندفع نحو الحياة لا تستطيع أن تعيش دائماً على الفضلات الذابلة للمحصول الأجنبي”، ويضيف “لا بد لكل زمان من أن يكتب كتبه”. والحقيقة أن مثل هذه الأفكار كانت غريبة وثورية في القارة الأميركية وحتى في أوساط كتابها ومفكريها في زمن إمرسون، وكانت تحمل دعوة صريحة إلى البناء الداخلي، “بدلاً من انتظار ما تجود به قرائح الأجانب”، كما تدعو في الوقت نفسه وضمن السياق نفسه إلى استنباط أفكار جديدة تبني الأمة التي كانت قيد النهوض، حتى وإن كان البعض أخذ عليها توجهاً نحو عزلة كانت في طريقها لأن تطبع الذهنية الأميركية ككل.

وضع إمرسون عشرات الدراسات والكتب التي تحمل أفكاراً مشابهة، والتي اعتبرت – في شكل أو آخر – تأسيساً للفكر الأميركي. ومع هذا يظل الكتاب الذي وضعه هذا الكاتب – الشاعر في آخر سنواته، وقبل أن يحل به ذلك الجنون الحاد والمذهل الذي مات وهو غارق فيه – يظل الأهم والأكثر بقاء، بين كتبه، هذا الكتاب بعنوان “المجتمع والعزلة”، وهو صدر في عام 1870، أي قبل رحيل إمرسون باثنتي عشرة سنة.

نادي التجاوزيين

وعلى رغم أهمية هذا الكتاب فإن مأثرة إمرسون الكبرى تبقى في مجالين مجاورين أولهما إصداره مجلته الخاصة باسمه والتي ستواصل الصدور طوال السنوات المتبقية من حياته وتجمع العدد الأكبر من دراساته وكتابات من يستضيفهم من ناحية، ومن ناحية ثانية تشكيله أول مجموعة شعرية في الزمن الحديث. ففي سبتمبر (أيلول) 1836، قبل يوم من نشر مجلته، التقى إمرسون فريدريك هنري هيدج وجورج بوتنام وجورج ريبلي، للتخطيط للاجتماعات الدورية للمفكرين بخاصة الشعراء من ذوي التفكير المماثل في هذا السياق. كانت تلك بداية نشاط “النادي التجاوزي”، الذي كان بمثابة مركز للحركة التجاوزية التي كان إمرسون يعمل على تأسيسها بدأب لتكون أول تجمع فكري – شعري في الزمن الحديث. ولقد عقد أول اجتماع رسمي لها في 19 سبتمبر 1836. وبعد ذلك بعام كان اجتماع ثان حضرت فيه النساء لأول مرة، بل دعا إمرسون مارغريت فولر وإليزابيث هوار وسارة ريبلي لتناول العشاء في منزله قبل الاجتماع، لمجرد التأكد من أنهن سيحضرن الاجتماع المسائي، وستثبت فولر أنها شخصية مهمة في الفلسفة المتعالية. أما بالنسبة إلى إمرسون فقد أرسل مقاله “التجاوزي” الأول بعنوان “الطبيعة” خالياً من توقيعه من دون أن يفسر ذلك، كما أنه لم يفسر أبداً السبب الذي جعله لا ينشره في مجلته. مهما يكن كان إمرسون منشغلاً عن ذلك، إذ بدأت المجموعة التجاوزية في نشر مجلتها الرئيسة The Dial، في يوليو (تموز) 1840. كان جورج ريبلي مديراً للتحرير. واختيرت مرغريت فولر محررة أولى بعد أن رفضت المنصب كل النساء اللاتي رحن يشاركن على أية حال في نشاطات الحركة ومنشوراتها المختلفة. أما فولر فستبقى تشغل المهمة قرابة السنتين لتكون أول سيدة في العالم الجديد تشارك في حركة ونشاطات وصحافة تجمع شعري بالغ الخصوصية، وبعد العامين تولى إمرسون المنصب، مستخدماً المجلة للترويج للكتاب الشباب الموهوبين بما في ذلك إليري تشانينج وبخاصة هنري ثورو الذي بات صديقه المقرب وعززت مشاركاته ونشر أعماله الشعرية في المجلة مكانته وجعلته يعتبر على الدوام الوريث الشرعي لإمرسون، ولا سيما في الحركة التجاوزية ولكن أيضاً بالنسبة إلى إيمانه المبكر باللجوء إلى الطبيعة وسكونها وتعبيره عن ذلك في أشعاره ومجمل نصوصه بحيث راح يبدو وحتى تاريخياً حتى الآن وكأنه الأنا/الآخر لإمرسون.

ولادة الحلم الأميركي

والحقيقة أن قراءتنا العميقة لكتابات إمرسون وثورو على صفحات مجلة إمرسون من جهة ومجلة “ذا دايل” من جهة ثانية قد تكون كافية لوضعنا أمام الصورة الحقيقية لصعود فكرة الحلم الأميركي، في بعدها النظري في الأقل، طوال القرن التالي للزمن الذي كتب فيه إمرسون وعاش. وحتى إذا كان من الصعب اعتبار إمرسون وحده في خلفية ولادة ذلك الحلم، لا شك في أن الموالفة بين أفكاره وأفكار بعض أصدقائه وتلامذته من أمثال ثورو وويتمان وملفيل وهاوثورن تكفينا لجمع قطع تلك الأحجية التي يمكن أن نحملها اليوم اسم “الحلم الأميركي”، في جذوره التأسيسية في الأقل.

ولد رالف والدو إمرسون في عام 1803 في بوسطن، في الشمال الشرقي للولايات المتحدة الأميركية، مثله في هذا مثل معظم الكتاب المعاصرين له. وهو كان ابناً لقسيس من الكنيسة التوحيدية، قضى والفتى بعد في الثامنة من عمره فربته أمه وخالته مع أشقائه الثلاثة. وكالعادة، بعد أن مارس إمرسون كثيراً من المهن واضطهد في كل مكان درس فيه وعمل، قيض له أن يسافر إلى أوروبا في عام 1832 وقد بانت توجهاته الأدبية والفكرية المبكرة. وفي عام 1833 زار بريطانيا حيث تعرف إلى كولردج ووودزورث وارتبط بصداقة عميقة مع كارلايل استمرت حتى نهاية حياته. ومن الواضح أن تأثيراً متبادلاً نما بين الرجلين. ولدى عودة إمرسون إلى أميركا امتهن العمل الجامعي وأصبح محاضراً يطور أفكاراً عن النزعة الترانسندالية (التجاوزية) التي كانت نامية في ذلك الحين وفي طريقها لأن تتحول إلى فلسفة. وكان من بواكير هذه النزعة كتابه “الطبيعة” الذي اعتبر فيه “إن الطبيعة، إنما هي تقمص للفكر”. ومنذ ذلك الحين لم يكف إمرسون عن الكتابة وإلقاء المحاضرات والتدريس الجامعي… وراحت أفكاره تنتشر بين الشباب والمثقفين. وهو عاش حتى عام 1882، منتجاً الكتاب تلو الآخر، مؤثراً في أجيال من مواطنيه، ووصلت شهرته إلى أوروبا كلها، لكنه خلال العشرية الأخيرة من حياته أصيب بذلك الجنون الذي لم يوقف فكره تماماً، لكنه جعله يكرر نفسه في شكل لا يطاق.

التعليقات معطلة.