غازي دحمان
استنزف المتصارعون في الحرب السورية هذا القالب الكلامي من كثرة ما استخدموه في ظرف أسبوع، فروسيا تتهم أميركا باللعب بالنار في ما تدعيه من محاولات أميركية لتقسيم سورية، واستراتيجيو أميركا الذين قيّموا نتائج الهجوم الفاشل على دير الزور وصفوا الأمر بأنه لعب روسي بالنار، وقالت إسرائيل إن إرسال إيران لطائرة مسيرة إلى أجوائها لعب بالنار، فيما حذر ما يسمى بـ «محور المقاومة» إسرائيل من الاستمرار باللعب بالنار.
ولا ندري من سينذر من بعد بعدم اللعب بالنار، غير أن الغريب أن جميع الأطراف ترفض رؤية طوفان النار التي باتت تطوّق سورية من كل الاتجاهات، عدا عن اللهيب المشتعل في قلبها، حتى تحولت إلى محرقة ابتلعت ملايين السوريين وأعادت إنتاجهم على شكل قتلى ومعاقين وتائهين في غياهب الأرض.
ولكن ما هو اللعب بالنار؟ هل يقتصر على المماحكات الحاصلة بين اللاعبين وسجالاتهم التي تجري، أحيانا، عبر فوهات المدافع، أو أنه أمر يتعلق بالخطط والإستراتيجيات التي برسمها اللاعبون، على البارد، تجاه بعضهم؟ أليست النار هي الأداة الوحيدة للعب والجد في سورية؟ بالتأكيد لم تتهدم حلب وحمص والرقة ودير الزور بالماء.
بيد أن هذا نذير سيء لما سيكون عليه مستقبل سورية في المرحلة المقبلة، ما دامت الأطراف لم تعترف حتى اللحظة أن التداولات والتعاملات بينها قد جرّت بالنار، فهذا يعني أن تقديراتهم تذهب إلى أن ثمة ناراً تخبئها الأطراف ليوم مقبل سيكون الصراع فيه أشد حمية من ذلك الذي حصل على مدار السنوات السبع السابقة، في بلد استنفذ قدرته على الاحتمال منذ زمن، وأكلت النيران جميع أرصدته، من الحجر للبشر.
ونظرة فاحصة على المشهد السوري ستصيب أكبر الاستراتجيين ومديري الأزمات بالذهول، فكيف استطاعت الأطراف المنخرطة في اللعبة السورية إدارتها وخرجت سالمة دون تصادم أو صراع، إلا في الحدود الدنيا! وكيف تسنى تنظيم هذا الزحام من الجيوش والعتاد في مساحة صغيرة مثل سورية، وكيف أمكن التعايش وإنجاز المهام ورسم الحدود وتحديد خطوط التماس وعتبات الخطر، وكيف جرى كل ذلك حتى اللحظة مع أن استخدام النار لم ينقطع ليوم واحد، ومكائن القتل والدمار لم تتوقف ولو من اجل استراحة لمحارب؟
ربما استطاعت الإرادة السياسية للأطراف المنخرطة تنظيم كرنفال النار هذا، وربما لأن إدارة الأزمة انحصرت بين أميركا وروسيا، وبالتالي لم يعد مهماً عدد الأطراف المنخرطة، ما دامت المسألة تدار بين منظومات وتحالفات كبرى، وضمن هذه العملية جرى التفاهم على الخطوط الحمر وحدود المرونة، ومن ثم تمت صياغة ذلك في إطار سمي قواعد الاشتباك، وجرى تعميمها من الاصلاء على الوكلاء.
لكن ما الذي حصل حتى توفقت تلك العملية المضبوطة باحترافية وبدأت التحديات والتهديدات تفيض من جميع جوانبها، وبدا أن الجميع يغادرون مرحلة الحذر من دون أدنى تهيب، مع يقينهم أن المرحلة التي ستلي ستكون الغرق في النار؟
الأرجح أن شروط متغيرين، على درجة من الأهمية، قد نضجت، وباتت تدفع باتجاه تغيير المعادلة الحالية وتطوير ألياتها، وينطوي كل متغير على محركاته ومحفزاته التي تجعل من الصدام بين اللاعبين إيذاناً ببدء السياق الجديد:
– الانتهاء من مرحلة التموضع وترتيباته، بعد الاستقرار في مسرح الحدث، وإثر رؤية الأطراف للمشهد الكلي والحصائل التي انتهت إليها عمليات التجاذب والتنافس في السنتين الأخيرتين، وبعد انتهاء الغطاء الذي وفرته الحرب على داعش، وفي هذا المناخ لم تعد التفاهمات السابقة ولا قواعد الاشتباك التي تزامنت معها صالحة لإدارة هذه المرحلة، كما أنه ليست هناك أرضية مشتركة لتأسيس تفاهمات جديدة، وقد استهلكت جميع الأطراف تلك التفاصيل والهوامش لصناعة التفاهم الأولي، وبالتالي، وبما أن أي تفاهم مستقبلي، يجب أن يرتكز على صناعة سلام حقيقي وصياغة أوضاع سورية ترضي الجميع، وهو أمر غير ممكن لتضارب الأهداف، فإن هذه المرحلة حمّالة لمخاطر جمّة، عرفنا منها حتى اللحظة تهديدات وإنذارات، وصدامات على شكل رسائل، ولا نعرف الباقي، أو كيف سيتم تصريف تلك التهديدات.
– بروز العامل الإقليمي، وخروج مكوناته من تحت سقف اللاعبين الكبار، ومحاولتهم تحقيق مصالحهم بأيديهم، إما نتيجة تقديرهم أن التسوية النهائية بين روسيا وأميركا قد تتشكّل بالضد من مصالحهم، وبالتالي فإن تحرّكهم الراهن هو إضافة شروط، لما يعتقدونه، صناعة الواقع السوري المقبل، أو ربما لتقييم خاص بالفرص والمخاطر التي انتهت إليها التطورات السورية، ومحاولة التقليل من المخاطر وتعظيم الفرص.
في المحصلة، المرحلة هي مرحلة صراع رؤى وتصورات حول الوضع الذي يجب أن تكون عليه سورية في المستقبل، لكن هذا الصراع ليس سجالاً دبلوماسياً يفاضل بين مقاربة وأخرى، بل هو لعبة بين عسكريين على الجبهات لا يتقنون سوى استخدام النار في حواراتهم.