لو ضُبط لحّامٌ بخيانة أو عمالة، لاقتصر الأمر على شخص اللحّام. الشيء نفسه يقال في رجل الأعمال وأستاذ المدرسة، لا بل في ضابط الجيش أو الموظّف في وزارة حسّاسة. لن يظهر من يعمّم ويستنتج أنّ اللحّامين أو رجال الأعمال أو ضبّاط الجيش أو طاقم الوزارات عملاء. مع هؤلاء جميعاً، ثمّة إقرار بالتعاطي القانونيّ البحت حيث الارتكاب عمل فرديّ يُسأل عنه صاحبه وحده.
المطالبة بمعاملة غير قانونيّة تنحصر بفئة واحدة دون سواها. إنّها المشتغلون بالكتابة والإعلام والفنون. إذا ضُبط واحد من هؤلاء بعمالة، أو اتُّهم بذلك، ظهر من يحرّض على هذه الفئة الاجتماعيّة بكاملها. نعم، «المثقّفون» ميّالون إلى العمالة، و «النخبة» تُغريها العمالة! هكذا يقول بعض المحرّضين عليهم. لهذا، يكون مقبولاً تسريب أسماء لا صلة لها بالأمر من بعيد أو قريب، سوى أنّ الفئة التي ينتمي إليها أصحاب الأسماء ملعونة جوهريّاً!
وراء ذلك علاقة لا تخلو من تعقيد: فالأفكار الكليّة تتوّج رأس «المثقّفين» بهالة لا تحظى بها فئة أو شريحة أخرى في المجتمع. إنّهم «منتجو المعنى»، «صانعو الأفكار»، «المفكّرون»… ولأنّ المعتقدات الكلّيّة ذات أصول دينيّة، تحظى النصوص والمهاترة فيها بمكانة رفيعة، ويحظى أصحاب النصوص تالياً بالمكانة ذاتها. وكلّ من أقاموا في أحزاب تحمل تلك المعتقدات يعرفون مدى قدسيّة النصوص وأهميّة المماحكة فيها. إنّها ليست ما يبرّر فحسب. إنّها بذاتها المبرِّر بألف ولام التعريف. هؤلاء، بسبب النصوص المقدّسة والتلاعب بها، يجعلون اللبن عصيراً والعصير لبناً. إذاً، الحاجة ملحّة إليهم.
لكنّ ترفيع «المثقّفين» ذو كلفة باهظة عليهم. إنّهم يغدون أكثر من يُطالَبون بالتطابق لأنّهم يملكون سحر النصّ الذي يبرّر. وهم، في المقابل، وبالتعريف، الأقلّ استعداداً للتطابق لأنّهم يشتغلون بالأفكار وبالتأويل وبالإبداع، أي بالاختلاف. كلّما اختلفوا كانوا مثقّفين أكثر ومبرّرين أقلّ. لهذا فإنّهم، في نظر المحرّضين عليهم، قابلون أن يكونوا خونة لأنّهم يخونون ما يُفترض أن يبرّروه. فوق هذا، هم يشبهون الأغراب والأجانب لأنّهم مثلهم نافرون ولا يطابقون. والغريب والأجنبيّ موضع اشتباه دائم عند المحرّض المتزمّت الذي يعلن نفسه ناطقاً بلسان الشعب والأمّة ومصالحهما. من لا يتطابق معه، إذاً، أجنبيّ مشبوه.
هكذا ينقلب ترفيع «المثقّفين» المبالغ فيه إلى حذر منهم مبالغ فيه. ثمّ إلى تشكيك يليه حكماً تخوين. وكلّما كانت «السلطات الفكريّة والثقافيّة» أقلّ ثقة بنفسها، وأشدّ استشعاراً بانفصالها عن المجتمع، وبحاجتها إلى التبرير، زاد ميلها إلى التشكيك والتخوين بمن لا يبرّرون أقوالها وأفعالها. في المقابل، يعتصم الخائفون بالتنصّل، وبالمزايدة في التنصّل، فهم كلّهم غرباء وأجانب، مشتبَه بهم لأنّهم يفكّرون بطريقة أخرى. هكذا يبدأ التسابق على ترداد كليشيهات سقيمة من نوع أنّ العمالة ليست وجهة نظر. هذه حالة بوليسيّة. راجعوا الستالينيّة و «اعترافاتها».
والحقّ أنّ ما يجب قوله دائماً، وتكريسه مرّةً بعد مرّة، هو أنّ وجهة النظر ليست عمالة. هي ليست تعاملاً مع «دولة العدوّ»، ولا رشوة ماليّة من «دولة العدوّ».
هؤلاء «الغرباء» يحقّ لهم أن يقولوا ما يشاؤون قوله في الصلح والسلام والتطبيع والمقاطعة، وأن يحتفظوا بكلّ التحفّظات التي يملكونها على الطرق الرسميّة أو الإيديولوجيّة السائدة في التعامل مع هذه المسائل. إنّه حقّ يعادل حقّ سواهم في إبداء آرائهم المختلفة في المسائل إيّاها. ليس بيننا، في ما أعلم، من هم أصحاب دم أزرق.
غير هذا يُسمّى إرهاباً، إرهاباً يتمدّد بذريعة اكتشاف عميل أو خائن، أو بذريعة زعم اكتشافه. وقدرة الإرهاب على التفشّي في المجتمع وعلى تسميم علاقاته أكبر وأخطر كثيراً من قدرة الخيانة التي تطاول أفراداً معدودين يتناولهم القضاء ثمّ يعزلهم المجتمع.
فليحكم القانون، لا اشتهاء المخابرات.
إنّهم عملاء!
حازم صاغية
التعليقات معطلة.