كاتبة صحافيّة ومحللة سياسية لبنانيّة
مساء الاثنين الماضي، قال المبعوث الأميركي الخاص إلى إيران روب مالي، إنه سيتم الإعلان عن المزيد من العقوبات في الأيام والأسابيع المقبلة ضد أولئك الذين يقفون وراء «العنف الوحشي ضد الشعب الإيراني». في الواقع هذا تغير كبير في موقف مالي، ويعكس أيضاً تغيراً في مواقف إعلاميين ومفكرين أميركيين كانوا يشجعون على التلاقي مع النظام الإيراني، والقبول بكل شروطه، بمعنى أنه لا حديث عن برنامج الصواريخ الباليستية ولا بحث في مصير أذرعها التي تعيث خراباً ودماراً في الدول العربية.
عندما تولى الرئيس جو بايدن منصبه، وعد بتحقيق أحد بنود حملته، أي إعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي الإيراني. لكن ثبت أن القيام بذلك أمر صعب لإدارة بايدن، ويرجع ذلك جزئياً إلى السياسات المعقدة التي أحاطت بالصفقة في كل من واشنطن وطهران، وأيضاً بسبب العلاقات المتوترة بين البلدين، التي توترت بشكل كبير في عهد سلف بايدن، الرئيس دونالد ترمب.
في مايو (أيار) 2018، نفذ ترمب وعده في حملته الانتخابية بسحب الولايات المتحدة من الاتفاق متعدد الأطراف لعام 2015، الذي يحد من برنامج إيران لتخصيب اليورانيوم، فادعت طهران في البداية أنها تتبنى موقف الصبر الاستراتيجي. ولكن بعد أن فشلت المحاولات الأوروبية للإبقاء على الصفقة قائمة، في تقديم أي فترة راحة من حملة «الضغط الأقصى» الأميركية، ووسط الخطاب العدائي المتزايد من واشنطن، غيرت إيران موقفها.
ومع أوائل عام 2019، بدأت إيران تعلن تدريجياً عن سلسلة مما وصفته بـ«انتهاكات عكسية» لالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي، متجاوزة حدود مخزونها من اليورانيوم المخصب ومستوى التخصيب. ثم علقت إيران لاحقاً بروتوكولها الإضافي مع «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، وهو اتفاق جانبي زود مفتشي «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» بآليات أكثر قوة لمراقبة كل مرحلة من مراحل البرنامج النووي الإيراني من اتفاقية الرقابة المعيارية للوكالة.
بالتوازي مع هذه التحركات للضغط على إدارة ترمب بشأن الاتفاق النووي، بدأت إيران في تصعيد التوترات العسكرية بشكل كبير مع الولايات المتحدة، بداية من منتصف عام 2019. وفي أعقاب سلسلة من الهجمات على ناقلات النفط في خليج عُمان التي ألقت واشنطن باللوم فيها على طهران، أسقطت القوات الإيرانية طائرة من دون طيار أميركية زعمت أنها تعمل في المجال الجوي الإيراني. في وقت لاحق من ذلك العام، شنت إيران هجوماً بطائرات من دون طيار وصواريخ «كروز» على منشآت النفط السعودية.
على خلفية التوترات المتصاعدة، وصلت الأمور إلى ذروتها في أوائل يناير (كانون الثاني) 2020؛ إذ بعد سلسلة من الأحداث العنيفة في العراق بين الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران والقوات الأميركية، وبعد أن طفح صبر الأميركيين، أذن ترمب بضربة بطائرة من دون طيار أسفرت عن مقتل القائد العسكري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، عند وصوله إلى بغداد قادماً من دمشق. أصيبت إيران بالذهول، لكن تراجع كلا الجانبين بعد ذلك عن التصعيد، إنما من دون معالجة خلافاتهما بشكل أساسي. واكتفت إيران وأذرعها، لا سيما «حزب الله» في لبنان، بالاعتقاد بأن نشر صور ضخمة لسليماني تبقيه على قيد الحياة، وتغيظ الأميركيين، فإذا بهذه الصور في إيران تصبح «فشة خلق»، كما نقول، للمتظاهرين، وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي لهيب النار وهو يأكل هذه الصور على وقع هتافات: «الموت للديكتاتور».
أجبرت العقوبات الأميركية التي أعاد ترمب فرضها على التجارة مع إيران الحكومات والشركات من أوروبا إلى آسيا على إنهاء مشاركتها الاقتصادية مع طهران، مع تأثير شديد بشكل خاص على صادرات النفط الإيرانية. وأدى التدهور الاقتصادي المحلي الناتج إلى تصعيد التوترات الاجتماعية والسياسية داخل إيران. ولكن بدلاً من تلطيف سلوك النظام تجاه شعبه تعززت يد المتشددين في طهران، الذين ظهروا كفائزين رئيسيين من الانتخابات البرلمانية، في فبراير (شباط) 2020.
كان مؤيدو الاتفاق النووي الإيراني في واشنطن وأوروبا يأملون في أن تعيد إدارة بايدن الولايات المتحدة بسرعة إلى الامتثال للاتفاق من خلال إزالة العقوبات أحادية الجانب، مع متابعة محادثات لمعالجة برنامج إيران الصاروخي والسلوك الإقليمي. لكن المفاوضات في فيينا لإنعاش خطة العمل الشاملة المشتركة أثبتت أنها أكثر صعوبة مما كان متوقعاً، حتى مع وجود معارضين للصفقة في الولايات المتحدة وإيران وحتى إسرائيل، التي انخرطت فيما يرقى إلى حرب سرية منخفضة المستوى مع إيران إن كان في سوريا أو إيران نفسها، ثم كانت نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية في يونيو (حزيران) 2021 التي فاز بها المحافظ المتشدد إبراهيم رئيسي، فازدادت العقبات أمام أي تقدُّم. ثم وقع ما لم يكن مُنتَظراً، فاندلعت الاحتجاجات الشعبية المستمرة في إيران بشأن القانون الذي يطالب النساء بارتداء غطاء للرأس أثارها مقتل صبية أثناء احتجازها لدى شرطة الأخلاق!!! لكن هذه الاحتجاجات لم تثنِ طهران عن تزويد روسيا بطائرات من دون طيار، وصواريخ بسبب الحرب في أوكرانيا، جاعلة الوقائع السياسية لتجديد الصفقة أكثر تكلفة لبايدن.
يحدث تدهور العلاقات الأميركية – الإيرانية على خلفية معركة النفوذ الإقليمي بين إيران وبعض الدول العربية المعنية، بما في ذلك الحروب بالوكالة في اليمن وسوريا، علاوة على المنافسة الاستراتيجية في لبنان، ومؤخراً العراق. في غضون ذلك، أصبح الشعب الإيراني عالقاً بشكل متزايد بين تعطشه للحرية وتكلفة ذلك وقمع النظام الاستبدادي في طهران الذي لا يزال عازماً على إبراز قوته وتأثيره في جميع أنحاء المنطقة، بغض النظر عن التكلفة في الداخل.
ومع هذا، يشغل بال بعض أعضاء الإدارة الأميركية، أكثر من اهتمامها بمصير الشعب الإيراني ما إذا كانت إيران ستعزز علاقاتها مع روسيا والصين لمواجهة الإجراءات الأميركية، وهي أسقطت من الحسبان الدور الذي ستلعبه أوروبا؟ أو ما إذا كان الضغط الخارجي سيؤدي، إلى جانب تأثير وباء «كورونا»، إلى تقويض السيطرة المحلية للنظام؟
«الحرية… الحرية»؛ يهتف الطلاب في جامعة الشريف بطهران. كما أن الطلاب في العديد من الجامعات يتحدون النظام، ويتجاوزون مساحات الفصل بين الجنسين. كما اخترقوا الحواجز التي نصبتها ميليشيات «الباسيج» الخاضعة لسيطرة «الحرس الثوري» الإيراني لدخول مطاعم الجامعات.
وانتقد رسم على أحد الجدران في طهران المبعوث الأميركي إلى طهران، روب مالي، بتهمة الضغط لمصلحة «الإرهابيين» (وفقاً لصورة حصلت عليها «إيران إنترناشيونال»)، وذلك رداً على تغريدة مثيرة للجدل قال فيها مالي إن المتظاهرين الإيرانيين «يتظاهرون فقط من أجل أن تحترم حكومتهم كرامتهم وحقوقهم الإنسانية». وقد أثار هذا سخط الجالية الإيرانية في واشنطن التي أبلغت جايك سوليفان، مدير الأمن القومي، أنها تريد فقط تغيير النظام في إيران، وأن على مالي أن ينظر إلى ما يعنونه وليس تضمين تغريداته تشويه صورة الرفض الإيراني للجمهورية الإسلامية باستمرار، لأنه بذلك يضر بمكانة الإدارة الأميركية عند الشعب الإيراني، ولأن النظام الإيراني الذي قتل مهسا أميني وعشرات المراهقين لا يمكن إصلاحه.
يخبرني عالم نووي أميركي أنه في تطور حديث، واعتباراً من 10 أكتوبر (تشرين الأول) 2022، بدأت إيران في نشر متزايد لأجهزة الطرد المركزي المتقدمة، في منشأة نطنز تحت الأرض. وكان لدى إيران 4000 جهاز طرد مركزي متقدم مثبت في جميع مرافق التخصيب الثلاثة المعلنة، مما يمثل زيادة بنسبة 44 في المائة على الـ2782، التي كان تم تركيبها حتى أواخر أغسطس (آب) 2022.
تشمل عمليات النشر الجديدة ست مجموعات جديدة من أجهزة الطرد المركزي «IR – 2m»، وسلسلة واحدة جديدة من أجهزة الطرد المركزي من طراز «IR – 4»، في محطة نطنز لتخصيب الوقود، حيث تشتمل كل سلسلة على نحو 174 جهاز طرد مركزي.
تضمن التوسع الأخير، المستمر، مضاعفة عدد أجهزة الطرد المركزي «IR – 2m» بسرعة في محطة إثراء الوقود. كما أعلنت إيران أنها ستضيف ثلاث مجموعات تسلسلية أخرى من طراز «IR – 2m» هناك، تم تركيب اثنتين منها. وعند الانتهاء، سيكون لدى إيران 15 سلسلة متتالية من طراز «IR – 2m»، في محطة إثراء الوقود.
أنهت إيران تركيب سلسلة ثالثة من طراز «IR – 4»، في محطة نطنز التي بدأت في تركيبها في شهر مايو (أيار)، مع وجود ثلاث سلاسل متتالية من طراز «IR – 4» مثبتة في محطة إثراء الوقود، وهكذا تكون إيران في منتصف الطريق نحو هدفها المتمثل في إنشاء ست سلاسل متتالية من طراز «IR – 4» هناك. وتم تركيب هذه المجموعات بشكل أبطأ مما كان متوقعاً.
قد تشير عمليات النشر البطيئة إلى وجود مشكلات في التصنيع في منفاخ ألياف الكربون المستخدمة في أجهزة الطرد المركزي أو غيرها من مشكلات التصنيع أو التجميع أو التشغيل.
إذا تم إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة أو الاتفاق النووي، فستكون إيران قادرة على إيقاف تشغيل كل أجهزة الطرد المركزي المتقدمة هذه بدلاً من تدميرها، مما يسمح بإعادة بناء أسرع لقدرتها على التخصيب أو جدول زمني أقصر، إذا تعثرت الصفقة التي قد يتم إحياؤها لاحقاً.
من الناحية النظرية، لا تزال الصفقة ممكنة. حتى إن عناصر القيادة الإيرانية المتشددين يرون قيمة في الفوائد الاقتصادية للتوافق، ولا ترى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن وحلفاء واشنطن الأوروبيين بديلاً أفضل لحل دبلوماسي للمواجهة. ومع ذلك، من الناحية العملية، كلما طال أمد العملية، كان من الصعب على كلا الجانبين تقديم التنازلات اللازمة لتحقيق نتيجة ناجحة.
مع أخذ ذلك في الاعتبار، تجدر إعادة النظر في السؤال حول الشكل الذي قد يبدو عليه المستقبل دون صفقة، ليس لأنه نتيجة جيدة، ولكن لأن احتمالات حدوث ذلك تتزايد.